لغتنا الجميلة بين التأصيل والتأويل
عدد مرات القراءة: 944890

بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رَسُوْلِهِ الأمِيْنِ .           وبَعْدُ :
فَإنَّ مِنَ الشُّكْرِ للهِ تَعَالى أنْ يُشْكَرَ عِبَادُهُ المُخْلِصُوْنَ، فَقَدْ قَالَ تَعَالى : (
وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) الآية .
وقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : «مَنْ لم يَشْكُرِ النَّاسَ لم يَشْكُرِ اللهَ» رَوَاهُ أحَمْدُ، والتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيْثِ أبي هُرَيْرَةَ، وإسْنَادُهُ صَحِيْحٌ .
لهَذَا كَانَ مِنَ الشُّكْرِ والعِرْفَانِ أنْ نَذْكُرَ مَجَلَّةَ «الشَّقَائِقِ» بِمَا لهَا مِنَ حَقٍّ، فَهِي على قُرْبِ عَهْدِهَا وقِلَّةِ خِبْرَتِها إذْ بِهَا تُسَابِقُ الزَّمَانَ، وتَطُوْفُ المَكَانَ، نَعَم إنَّ مَجَلَّةَ الشَّقَائِقِ نَرَاهَا كَمَا يَرَاهَا كُلُّ ذِي عَيْنٍ وبَصِيْرَةٍ تُزَاحِمُ المَوْجَةَ الخَلِيْعَةَ مِنَ المَجَلَّاتِ الَّتِي غَصَّتْ بِهَا الأسْوَاقُ الإسْلامِيَّةُ لتَدْمِيْرِ المَرْأةِ المُسْلِمَةِ الَّتِي هِيَ نَوَاةُ الأُمَّةِ، ولَبِنَةُ المُجْتَمَعِ، وغُرَّةُ التَّارِيْخِ الإسْلامِي، فمَجَلَّةُ الشَّقَائِقُ نَظُنُّهَا قَدْ سَدَّتْ ثَغْرَةً نَحْنُ والأُمَّةُ أحْوَجُ إلَيْهَا لاسِيَّمَا هَذِهِ الأيَّامَ، وهَذَا مَا ظَهَرَ لي فِيْهَا، واللهُ تَعَالى أعْلَمُ .

* * *

وبَعْدَ هَذِهِ المُقَدِّمَةِ أحْبَبْتُ أنْ أقِفَ مَعَ مَجَلَّتِكُم الغَرَّاءِ (الشَّقَائِقِ) في أحَدِ عَنَاوِيْنِهَا، وقَدْ حَمَلَني وحَدَاني إلى ذَلِكَ تَشْجِيْعُ المَجَلَّةِ على قَبُوْلِ الآرَاءِ، وسِعَةِ الصَّدْرِ للرُّدُوْدِ العِلْمِيَّةِ، والنَّقْدِ البنَّاءِ بَيْنَ الكُتَّابِ، ولاسِيَّما بَيْنَ كُتَّابِهَا، عِلْمًا أنِّي أعْلَمُ كَمَا يَعْلَمُ الجَمِيْعُ أنَّ كُلَّ مَا يُبَثُّ، أو يُنْشَرُ في هَذِهِ المَجَلَّةِ مِنْ آرَاءَ وأفْكْارٍ وبُحُوْثٍ لا تُعَبِّرُ إلَّا عَنْ أصْحَابِهَا لا غَيْرَ، والمَجَلَّةُ مِنْهُ بَرِيْئَةٌ لاسِيَّمَا إذَا كَانَ خَطَأً ظَاهِرًا، أو فَسَادًا بيِّنًا .
لهَذَا لَقَدْ طَالَعَتْنَا مَجَلَّةُ الشَّقَائِقِ في عَدَدِهَا التَّاسِعِ في السَّنَةِ الأُوْلى (1417) بعِنْوَانٍ جَمِيْلٍ، إلَّا إنَّهُ يَحْمِلُ في مَضْمُوْنِهِ أخْطَاءً شَنِيْعَةً، وتَأوِيْلاتٍ فَاسِدَةً، تَدْعُو كُلَّ مُسْلِمٍ غَيُورٍ أنْ يَتَصَدَّى لهَذِهِ الأخْطَاءِ، ويَكْشِفَ مَا يُمْكِنُ كَشْفُهُ بالنَّقْلِ الصَّحِيْحِ، والعَقْلِ الصَّرِيْحِ، وذَلِكَ لأمُوْرٍ مُهِمَّةٍ، وهِيَ :
أوَّلًا : الانْتِشَارُ الوَاسِعُ لهَذِهِ المَجَلَّةِ (الشَّقَائِقِ)، وكَثْرَةُ تَدَاوُلُهَا بَيْنَ أوْسَاطِ النِّسَاءِ خَاصَّةً على اخْتِلافِ طَبَقَاتِهِم العِلْمِيَّةِ .
ثَانِيًا : الخَطَأ الَّذِي وَقَعَ فِيْهِ الكَاتِبُ لَيْسَ مِمَّا يُتَسَامَحُ فِيْهِ، أو يَقْبَلُ الاجْتِهَادَ، بَلْ كَانَ في قَضِيَّةٍ خَطِيْرَةٍ تَتَعَلَّقُ بالعَقِيْدَةِ الإسْلامِيَّةِ الَّتِي لا يَجُوْزُ السُّكُوْتُ عَنْهَا، أو غَضُّ الطَّرْفِ عَنْ تَصْحِيْحِهَا، واللهُ أعْلَمُ .
ثَالِثًا : أنَّ السُّكُوْتَ عَنْ هَذَا الخَطَأ العَقَدِيِّ سَيَكُوْنُ لَهُ أثَرٌ بَلِيْغٌ غَيْرُ مَحْمُوْدٍ عِنْدَ القُرَّاءِ، والمُحِبِّيْنَ لهَذِهِ المَجْلَّةِ، ومَا ذَاكَ إلَّا أنَّ أكْثَرَ الأُمَّةِ وللهِ الحَمْدُ والمِنَّةُ نَرَاهُم هَذِهِ الأيَّامَ يَسْعَوْنَ حَثِيْثًا إلى تَصْحِيْحِ عَقَائِدِهِم، ولاسِيَّمَا مَعَ هَذِهِ اليَقْظَةِ العِلْمِيَّةِ، بَلْ هُمْ في شَغَفٍ إلى نَشْرِ عَقَائِدِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، ودَحْضِ مَا سِوَاهَا مِنْ مَقَلاتٍ كَلامِيَّةٍ مُبْتَدَعَةٍ .

* * *

لهَذَا نَجِدُ الكَاتِبَ (الدُّكْتُوْرَ) / عُمَرَ الأسْعَدَ هَدَاهُ اللهُ، لَقَدْ سَطَّرَ هَذَا العِنْوَانَ : (لُغَتُنَا الجَمٍيْلَةُ)، وتَكَلَّمَ تَحْتَهُ عَنْ ثَلاثَةِ أُمُوْرٍ اسْتَدَلَّ بِهَا على جَمَالِ وبَلاغَةِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ زَعْمًا مِنْهُ، وهِيَ كَمَا يَلِي :
1- مَسْألَةُ السَّاقِ .
2- مَسْألَةُ اليَدِ .
3- مَسْألَةُ الصُّفْرَةِ . 
الأمْرُ الَّذِي دَفَعَنِي إلى الحَدِيْثِ عَنْهَا جَمِيْعًا بِشَيءٍ مِنَ الاخْتِصَارِ، غَيْرَ أنَّنِي سَوْفَ أبْدأ مَعَ مَسْألَةِ اليَدِ أوَّلًا، ثُمَّ أُعَرِّجُ على مَا سِوَاهَا مِنَ المَسَائِلِ؛ حَيْثُ لا تَثْرِيْبَ في مُخَالَفَةِ التَّرْتِيْبِ هَا هُنَا، وسَتَكُوْنُ الرُّدُوْدُ مُخْتَصَرَةً مَا أمْكَنَ إلى ذَلِكَ سَبِيْلًا، هذا إذا عِلْمًا أنَّ الرَّدَّ على كل مسألة يَحْتَاجُ منا إلى كَرَارِيْسَ عِلْمِيَّةٍ غَيْرَ إنَّ المَجَلَّةَ لَيْسَتْ مَحَلًّا لذَلِكَ، كَمَا هُوَ مَعْلُوْمٌ لدَى الجَمِيْعِ، فوَجَبَ التَّنْبِيْهُ!
وهَذَا أوَانُ الشُّرُوْعِ في الرَّدِّ العِلْمِي على مَقَالَةِ الدُّكْتُوْرِ الأسْعَدِ حَفِظَهُ اللهُ :

قُلْتُ : إنَّ القَارِئ لمَقَالَتِكِم يَلْحَظُ مَا يَلي :
أوَّلًا : أنَّكُم تَقُوْلُوْنَ بالمَجَازِ في القُرْآنِ الكَرِيْمِ .
ثَانِيًا : أنَّكُم جَنَحْتُم إلى تَعْطِيْلِ الصِّفَاتِ الحَقِيْقِيَّةِ للهِ تَعَالى، وذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِكِم : «كَمَا يُقَالُ للشَّحِيْحِ يَدُهُ مَغْلُوْلَةٌ، ولا يَدَ ثَمَّةَ ولا غِلَّ ... وكَذَلِكَ هَذَا لا سَاقَ هُنَاكَ، ولا كَشْفَ ... فَكنَّى بِهِ عَمَّا ذُكرَ، فَلا سَاقَ ثَمَّةَ، ولا كَشْفَ، وهُوَ كَمَا يُقَالُ للأقْطَعِ الشَّحِيْحِ يَدُهُ مَغْلُوْلَةٌ، ولا يَدَ ثَمَّةَ ولا غِلَّ، وإنَّمَا هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ البُخْلِ» انْتَهَى .
فأمَّا المَسْألَةُ الأُوْلى : فاعْلَمْ رَحِمَكَ اللهُ، أنَّكَ حَمَلْتَ وأوَّلْتَ مَعْنَى اليَدِ بالنِّعْمَةِ في قَوْلِهِ تَعَالى
: (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك  من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين ) الآية .
وهَذَا يُسَمَّى عِنْدَ جَمْهُوْرِ البَلاغِيِّيْنَ : مَجَازًا، وعِنْدَ السَّلَفِ يُسَمَّى : تَلاعُبًا بالألْفَاظِ، وتَحْرِيْفًا وتَعْطِيْلًا للحَقَائِقِ، عِلْمًا بأنَّ المَجَازَ لا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بَعْدَ شُرُوْطٍ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا عِنْدَ أهْلِ الفَنِّ مِنَ البَلاغِيِّيْنَ والأُصُوْلِيِّيْنَ والمُتَكَلِّمِيْنَ، بَلْ عِنْدَ جَمِيْعِ الطَّوَائِفِ مِنْ أهْلِ الإسْلامِ، فمِنْ هَذِهِ الأُمُوْرِ المُتَّفَقِ عَلَيْهَا :

1. أنَّ الأصْلَ حَمْلُ الكَلامِ على حَقِيْقَتِهِ .
2. عَدَمُ حَمْلِ الكَلامِ على المَجَازِ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ حَمْلُهُ على الحَقِيْقَةِ، وهُوَ هُنَا غَيْرُ مُتَعَذِّرٍ.
3.وُجُوْدُ قَرِيْنَةٍ صَارِفَةٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ مَقَالِيَّةً أو حَالِيَّةً تَدُلُّ على ذَلِكَ المَحْمَلِ عِنْدَ تَعَذُّرِ حَمْلِ الكَلامِ على حَقِيْقَتِهِ، وإلَّا أصْبَحَ المَجَازُ دُوْنَ هَذِهِ الشُّرُوْطِ تَلاعُبًا بالألْفَاظِ، بَلْ هُوَ في الحَقِيْقَةِ قَرْمَطَةٌ في العَقْلِيَّاتِ، وسَفْسَطَةٌ في النَّقْلِيَّاتِ، فَإذَا عُلِمَ هَذَا سَيَكُوْنُ الرَّدُّ مَعَكُم مِنْ خِلالِ آيَةِ المَائِدَةِ، كَمَا يَلي :
أوَّلًا : أنَّ الأصْلَ الحَقِيْقَةُ، فدَعْوَى المَجَازِ مُخَالِفَةٌ للأصْلِ .
ثَانيًا : إنَّ مَا ذَهَبْتَ إلَيْهِ أيُّهَا الدُّكْتُوْرُ خِلافُ الظَّاهِرِ مِنَ الآيَةِ، لهَذَا اتَّفَقَ الأصْلُ والظَّاهِرُ على بُطْلانِ دَعْوَى المَجَازِ .
ثَالثًا : أنَّ المَجَازَ الَّذِي ذَهَبْتَ إلَيْهِ في الآيَةِ الكَرِيْمَةِ لا يُسْتَعْمَلُ بلَفْظِ التَّثْنِيَةِ عِنْدَ العُقَلاءِ مِنْ أهْلِ اللُّغَةِ، فهُوَ لا يُسْتَعْمَلُ إلَّا مُفْرَدًا، أو مَجْمُوْعًا كَقْوِلَك : «لَهُ عِنْدِي يَدٌ يُجْزِيْهِ اللهُ بِهَا، ولَهُ عِنْدِي أيَادٍ»)، وأمَّا إذَا جَاءَ بلَفْظِ التَّثْنِيَةِ لم يُعْرَفْ لَهُ اسْتِعْمَالٌ قَطُّ إلَّا في اليَدِ الحَقِيْقِيَّةِ، فهَذَا القُرْآنُ والسُّنَّةُ ودَوَاوِيْنُ اللُّغَةِ أكْبَرُ شَاهِدٍ على ذَلِكِ، فتَأمَّلْ ذَلِكَ رَعَاكَ اللهُ .
رَابِعًا : أنَّ يَدَ النِّعْمَةِ لا يُعْرَفُ اسْتِعْمَالُهَا البَتَّة إلَّا في حَقِّ مَنْ لَهُ يَدٌ حَقِيْقِيَّةٌ، وعَلَيْهِ دَلَّ النَّقْلُ الصَّحِيْحُ واللِّسَانُ الفَصِيْحُ، فإضَافَةُ اليَدِ إلى الحَيِّ إمَّا أنْ تَكُوْنَ يَدًا حَقِيْقِيَّةً، أو مُسْتَلْزِمَةً لليَدِ الحَقِيْقِيَّةِ، كَمَا هُوَ مَعْلُوْمٌ عِنْدَ التَّتَبُّعِ والاسْتِقْرَاءِ في دَوَاوِيْنِ اللُّغَةِ، أمَّا أنْ تُضَافَ إلى مَنْ لَيْسَ لَهُ يَدٌ حَقِيْقِيَّةٌ وهُوَ حَيٌّ مُتَّصِفٌ بصِفَاتِ الأحْيَاءِ فهَذَا لا يُعْرَفُ البَتَّة، فأمَّا قَوْلُكُ : «وهُوَ كَمَا يُقَالُ للأقْطَعِ الشَّحِيْحِ يَدُهُ مَغْلُوْلَةٌ، ولا يَدَ ثَمَّةَ، ولا غِلَّ ...»، فَلَيْسَ فِيْهِ دَلِيْلٌ؛ لأنَّ المَقْطُوْعَ في الأصْلِ هُوَ قَابِلٌ لليَدِ، ومَحَلٌّ لَهَا، فالقَطْعُ لا يَنْفِي حَقِيْقَةَ اليَدِ المَقْطُوْعَةِ بخِلافِ مَنْ لَيْسَ هُوَ قَابِلًا ومَحَلًّا لليَدِ، مِثْلَ الجَبَلِ والبَحْرِ ... فتَأمَّلْ رَعَاكَ اللهُ .
خَامِسًا : اعْلِمْ رَحِمَكَ اللهُ أنَّ اللهَ تَعَالى لم يُطْلِقْ على نَفْسِهِ نِعْمَةً بلَفْظِ التَّثْنِيَةِ، بَلْ بلَفْظِ الإفْرَادِ الشَّامِلِ لجَمِيْعِ الحَقِيْقَةِ، كقَوْلِهِ تَعَالى : «وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إنَّ الله لغفور رحيم» الآية .
وقَدْ يَجْمَعُ النِّعَمَ، فيَقُوْلُ تَعَالى : «
وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير» الآية .
وأمَّا أنْ يَقُوْلَ : «
بل نعمتاه مبسوطتان»، أو : «خلقت آدم بنعمتين»، فهَذَا لم يَقَعْ في كَلامِهِ تَعَالى، ولا كَلامِ رَسُوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، بَلْ تَأبَاهُ العُقُوْلُ السَّلِيْمَةُ، بَلْ هَذَا جَهْلٌ بنِعَمِ اللهِ السَّابِغَةِ الكَثِيْرَةِ على عِبَادِهِ، فلَيْتَ شِعْرِي لَو أخْبَرْتَنَا أيُّهَا الدِّكْتُوْرَ عَنْ تَيْنِكَ النِّعْمَتَيْنِ إنْ كُنْتَ مِنَ العَالِمِيْنَ؟
سَادِسًا : لَو كَانَتْ اليَدُ تَأتي بمَعْنَى النِّعْمَةِ على الإطْلاقِ، فهَلْ مِنَ المَعْقُوْلِ أنْ نَقُوْلَ : «
إن الله خلق آدم بنعمتين»؟ إذَا كَانَ الجَوَابُ بنَعَمٍ، فلَيْسَ هُنَاكَ مَيْزَةٌ، أو تَخْصِيْصٌ لأدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ على سَائِر الخَلْقِ، فالخَلْقُ كَذَلِكَ .
وإنْ كَانَ الجَوَابُ بِلا، بَلْ خَلَقَهُ اللهُ تَعَالى بقُدْرَتِهِ، فكَذَلِكَ الخَلْقُ، ومِنْ هَذَا عُلِمَ بُطْلانُ قَوْلِكِم، لهَذَا أرَاكَ يَا أخَانَا أتَيْتَ هَذَا مِنْ جِهَةِ أنَّكَ رَأيْتَ أنَّ اليَدَ تُطْلَقُ على النِّعْمَةِ في بَعْضِ المَوَاضِعِ، فظَنَنْتَ أنَّ كُلَّ تَرْكِيْبٍ وسِيَاقٍ ذُكِرَتْ فِيْهِ اليَدُ صَالِحٌ لهَذَا الاطِّرَادِ والحَمْلِ المُطْلَقِ!
سَابِعًا : لقَدْ وَرَدَتْ آيَاتٌ، وأحَادِيْثُ فِيْهَا اقْتِرَانُ لَفْظِ الطَّي، والقَبْضِ والإمْسَاكِ، والبَسْطِ باليَدِ، وهَذَا مِمَّا يُصَيِّرُ ويَجْعَلُ اليَدَ المَذْكُوْرَةَ حَقِيْقَةً بخِلافِ اليَدِ المُجَازِيَّةِ، لهَذَا لا يُقَالُ: طَيٌّ بنَعْمَتِهِ، أو قَبْضٌ بنِعْمَتِهِ، أو بَسْطُ نِعْمَتِهِ!
ثَامِنًا : أنَّ اللهَ تَعَالى أنْكَرَ على اليَهُوْدِ في آيَةِ المَائِدَةِ شَيْئًا وَاحِدًا، وهُوَ : «نِسْبَةُ يَدِ اللهِ تَعَالى إلى النَّقْصِ والعَيْبِ»، وذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعَالى : «
وقالت اليهود يد الله مغلولة ...» الآية؛ حَيْثُ نَرَاهُ تَعَالى لم يُنْكِرْ عَلَيْهِم إثْبَاتِهِم لليَدِ، بَلْ أكَّدَ إثْبَاتَ اليَدِ الحَقِيْقِيَّةِ؛ حَيْثُ قَالَ تَعَالى : «بل يداه مبسوطتان» الآية، فَلَيْتَ شِعْرِي هَلْ اليَهُودُ أعْلَمُ مِنَّا بصِفَاتِ رَبِّنَا؟!
تَاسِعًا : اعْلَمْ رَحِمَكَ اللهُ أنَّ مَسْألَةَ «اليَدِ، والسَّاقِ، وغَيْرِهِمَا»، قَدْ تَظَافَرَتِ الأدِلَّةُ على إثْبَاتِهَا للهِ تَعَالى، كَمَا يَلِيْقُ بِهِ تَعَالى مِنْ غَيْرِ تَحْرِيْفٍ، ولا تَعْطِيْلٍ، ومِنْ غَيْرِ تَكْيِيْفٍ ولا تَمْثِيْلٍ، كسَائِرِ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ والفِعْلِيَّةِ، مِمَّا لا يَدَعُ مَجَالًا للبَحْثِ فِيْهَا، فكَمَا أنَّ للهِ تَعَالى ذَاتًا تَلِيْقُ بِهِ، فَكَذَلِكَ الصِّفَاتُ، لأنَّ القَوْلَ في الذَّاتِ كالقَوْلِ في الصِّفَاتِ، ومِنَ الأدِلَّةِ على ذَلِكَ القُرْآنُ والسُّنَّةُ وإجْمَاعُ السَّلَفِ، فلَيْسَ بَعْدَ الحَقِّ إلَّا الضَّلالُ .
عَاشِرًا : أنْ يُقَالَ مَا الَّذِي يَضُرُّكَ مِنْ إثْبَاتِ اليَدِ حَقِيْقَةً للهِ تَعَالى، ولَيْسَ مَعَكَ مَا يَنْفِي ذَلِكَ مِنْ أنْوَاعِ الأدِلَّةِ لا نَقْلِيِّهَا ولا عَقْلِيِّهَا، ولا ضَرُوْرِيِّهَا ولا نَظَرِيِّهَا، بَلْ لَيْسَ مَعَكُم سَوَى الأوْهَامِ والتَّأوِيْلاتِ الخَاطِئَةِ، ثُمَّ نَقُوْلُ إنْ كَانَ الَّذِي حَمَلَكُم على هَذِهِ التَّفْسِيْرَاتِ البَعِيْدَةِ الفَرَارُ خَشْيَةَ التَّشْبِيْهِ والتَّمْثِيْلِ، أو التَّجْسِيْمِ والتَّرْكِيْبِ وغَيْرِهَا، فيَلْزَمُ مِنْ هَذِهِ الخَشْيَةِ أيْضًا الفَرَارُ مِنْ إثْبَاتِ حَقِيْقَةِ السَّمْعِ والبَصَرِ والحَيَاةِ والعِلْمِ والإرَادَةِ والكَلامِ وغَيْرِهَا، بَلْ سَائِرِ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ والفِعْلِيَّةِ، ومِنْ ثَمَّ إنْكَارُ صَفَةِ الوُجُوْدِ، وهَلْ هَذَا إلَّا إنْكَارٌ للذَّاتِ حَقِيْقَةٍ بطَرِيْقِ الإلْزَامِ؛ حَيْثُ لا يُعْقَلُ وُجُوْدُ ذَاتٍ بِلا صِفَاتٍ، فإنْ ظَهَرَ ذَلِكَ لَكُم فَهُو في الأذْهَانِ دُوْنَ الأعْيَانِ، فلَيْسَ في ذَلِكَ حُجَّةٌ لَكُم، بَلْ غَايَةُ مَا في الأذْهَانِ مِنْ ذَوَاتٍ مُتَصَوَّرَةٍ مَا هِيَ إلَّا خَيَالاتٌ ظَنِّيَّةٌ، وأوْهَامٌ ذِهْنِيَّةٌ لَيْسَ لهَا حَقِيْقَةٌ في الوُجُوْدِ، فالعَقْلُ قَدْ يَجْمَعُ بَيْنَ المُتَنَاقِضَاتِ، ويَتَصَوَّرُ المُسْتَحِيْلاتِ، فَكُلُّ ذَلِكَ وُجُوْدٌ مُطْلَقٌ كُلِّيٌّ لا حَقِيْقَةَ لَهُ في الأعْيَانِ، واللهُ المُوَفِّقُ، والهَادِي إلى سَوَاءِ السَّبِيْلِ .

* * *

الرَّدُّ الثَّاني على مَسْالَةِ السَّاقِ : أقُوْلُ، واللهُ المُسْتَعَانُ : لقَدْ لُوْحِظَ مِنْ مَقَالِكُم مَا يَلي:
أوَّلًا : أنَّكُم عَزَّزْتُم قَوْلَكُم : «بَأنَّ السَّاقَ كِنَايَةٌ عَنِ الشِّدَّةِ»، بأقْوَالِ بَعْضِ المُفَسِّرِيْنِ، وبشَيءٍ مِنَ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ زَعْمًا مِنْكُم .
ثَانِيًا : أنَّ مُعْظَمَ نُقُولاتِكَ ومَرَاجِعَكَ مَأخُوْذَةٌ مِنْ مُخْتَصَرَاتِ الشَّيْخِ / مُحَمَّدِ بنِ عليِّ الصَّابُوني هَدَاهُ اللهُ، ولا يَخْفَى على الجَمِيْعِ مَذْهَبُهُ الأشْعَرِيُّ، ومُخْتَصَراتُهُ البَتْرَاءُ الَّتِي جَمَعَ فِيْهَا مَا يُعَزِّزُ أشْعَرِيَّتَهُ، والَّتِي حَذَفَ مِنْهَا مَا يَنْقُضُ ويُغِيْضُ أشْعَرِيَّتَهُ، واللهُ الهَادِي إلى سَوَاءِ السَّبِيْلِ، فأقُوْلُ :
أوَّلًا : نَعَم ظَاهِرُ الآيَةِ لا يَدُلُّ على أنَّ «السَّاقَ»، مِنَ الصِّفَاتِ الإلَهِيَّةِ في قَوْلِهِ تَعَالى : «
يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون» الآية .
لأنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ السَّاقَ بلَفْظِ النَّكِرَةِ في سِيَاقِ الإثْبَاتِ، ولم يُضِفْهَا إلَيْهِ تَعَالى ولم يُعَرِّفْهَا، ولهِذَا كَانَتِ السَّاقُ نَكِرَةً تَحْتَمِلُ عِدَّةَ مَعَانٍ لَيْسَ أحَدُهَا أوْلى مِنَ الآخَرِ .
ثَانِيًا : إذَا سَلَّمْنَا أنَّ «الساق» وَرَدَتْ بلَفْظِ النَّكِرَةِ المُحْتَمِلَةِ لعِدَّةِ مَعَانٍ، فَلَيْسَ لأحَدٍ والحَالَةُ هَذِهِ أنْ يُقَدِّمَ مَعْنًى على آخَرَ دُوْنَ دَلِيْلٍ مُرَجِّحٍ، سَوَاءُ كَانَ نَقْليًّا أو عَقْليًّا .
ثَالِثًا :
عِنْدَمَا رَجَّحْتَ أيُّهَا الدُّكْتُوْرَ مَعْنَى : «كَشَفُ الشِّدَّةِ»، بدَلِيْلِ اللُّغَةِ .
نَقُوْلُ لَكَ : نَحْنُ لا نُسَلِّمُ لَكَ هَذَا الدَّلِيْلَ، بَلْ الدَّلِيْلُ اللُّغَويُّ عَلَيْكَ لا لَكَ، وذَلِكَ لأنَّ فَصِيْحَ اللُّغَةِ يَأبى هَذَا التَّوْجِيْهَ الرَّكِيْكَ، لأنَّ الصَّحِيْحَ، أنْ يُقَالَ : «كَشَفَتِ الشِّدَّةُ عَنِ القَوْمِ، لا أنْ يُقَالَ كَشَفَتْ عَنْهَ»، كَمَا قَالَ تَعَالى : «
فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون» [الزخرف50]، وقَوْلُهُ تَعَالى : «ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون» [المؤمنون 75]، فالعَذَابُ والشِّدَّةُ هُوَ المَكُشْوُفُ، لا المَكْشُوْفُ عَنْهُ، لهِذَا لا نَقُوْلُ في الآيَةِ الكَرِيْمَةِ : «يَوْمَ يُكْشَفُ عَنِ الشِّدَّةِ»، لأنَّ الشِّدَّةَ لا تَحْتَاجُ أحَدًا أنْ يَكْشِفَ مَا بِهَا مِنْ شِدَّةٍ، بَلِ الصَّحِيْحُ أنْ يُقَالَ : يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ شِدَّتِهِم، لا عَنْ شِدَّةٍ نَكِرَةٍ، لاسِيَّمَا وهُم في أهْوَالِ يَوْمِ القِيَامَةِ ... فتَأمَّلْ .
رَابِعًا: إذَا ظَهَرَ أنَّ «السَّاقَ»، نَكِرَةٌ تَحْتَمِلُ عِدَّةَ مَعَانٍ، فلَنَا دَلِيْلٌ شَرْعِيٌّ مُرَجِّحٌ لا يَحْتَمِلُ التَّأوِيْلَ، أو التَّحْرِيْفَ، فهَذَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَدْ كَفَانَا مَؤنَةَ التَّأوِيْلاتِ والتَّخْمِيْنَاتِ البَعِيْدَةِ؛ حَيْثُ فَسَّرَ هَذِهِ الآيَةَ، فَإنْ كَانَ عِنْدَنَا مِنَ اللُّغَةِ عِلْمُهَا، فالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عِنْدَهُ مِنَ اللُّغَةِ عِلْمُهَا وعِيْنُهَا وحَقُّهَا، فِدَاهُ أبي وأمِّي .
فقَدْ أخْرَجَ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ، وغَيْرُهُ مِنْ حَدِيْثِ أبي سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَقُوْلُ : «
يكْشِفُ رَبُّنَا عَنْ سَاقِهِ، فيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤمِنٍ ومُؤمِنَةٍ، ويَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ في الدُّنْيَا رِيَاءً وسُمْعَةً، فيَذْهَبُ ليَسْجُدَ، فيَعُوْدُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا» .
وكَذَلِكَ أخْرَجَ إمَامُ المُفَسِّرِيْنَ ابنُ جَرِيْرٍ الطَّبرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى في تَفْسِيْرِهِ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : «
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ...» الآيَةَ، قَالَ : «يَكْشِفُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ عَنْ سَاقِهِ»، وأخْرَجَهُ أيْضًا ابنُ مَنْدَه في الرَّدِّ على الجَهَمِيَّةِ، وكِتَابِ الإيْمَانِ، وإسْنَادُهُ صَحِيْحٌ، رِجَالُهُ ثِقَاتٌ .
فبَعْدَ هَذَا كَفَى اللهُ المُؤمِنِيْنَ البَحْثَ والتَّنْقِيْبَ، فَهَلْ يَبْقَى بَعْدَ هَذَا أنْ نَقُوْلَ : إنَّ هُنَاكَ مَجَازًا، أو اسْتِعَارَةً، أو كِنَايَةً، أو غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ إفْرَازَاتِ البَلاغِيِّيْنَ الَّتِي أتَّكَئ واعْتَمَدَ عَلَيْهَا كَثِيْرٌ مِنْ أهْلِ المَقَالاتِ الإسْلامِيَّةِ؟ الأمْرُ الَّذِي حَرَّفُوا بِهِ كِتَابَ اللهِ تَعَالى، وسُنَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِمَا اصْطَلَحُوْهُ في كُتُبِهِم البَلاغِيَّةِ وغَيْرِهَا، واللهُ المُسْتَعَانُ .
خَامِسًا : قَدْ قُلْتُم في تَفْسِيْرِ السَّاقِ مَا نَصُّهُ : «وفي هَذَا الإطَارِ دَارَتْ جُمْلَةُ الأقْوَالِ الَّتِي قِيْلَتْ في تَفْسِيْرِ قَوْلِهِ تَعَالى : «يوم يكشف عن ساق ...»، وخُلاصَتُهَا، أنَّ قَوْلَهُ : «يوم يكشف عن ساق ...»، كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ الأمْرِ وتَفَاقُمِهِ في ذَلِكَ اليَوْمِ ...»!
أخِي يَا رَعَاكَ اللهُ، أنَّى لَكَ جُمْلَةُ هَذِهِ الأقْوَالِ؟!
فأيْنَ قَوْلُ وتَفْسِيْرُ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ؟ بَلْ أيْنَ أنْتَ عَنْ قَوْلِ شَيْخِ المُفَسِّرِيْنَ، وقُدْوَةِ السَّلَفِيِّيْنَ، ورَاوِي كَلامِ رَبِّ العَالَمِيْنَ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَدْ صَحَّ عَنْهُ أنَّهُ قَالَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالى : «
يوم يكشف عن ساق ...» الآية، قَالَ : «عَنْ سَاقَيْهِ» بسَنَدٍ صَحِيْحٍ.
سَادِسًا : أنَّ مَا وَرَدَ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في تَفْسِيْرِ هَذِهِ الآيَةِ، لا يَصِحُّ عَنْهُ سَنَدًا ولا مَتْنًا، ولو صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فيَكُوْنُ تَفْسِيْرُهُ على ضَوْءِ اللُّغَةِ، لا باعْتِبَارِهَا مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ .
سَابِعًا : أنَّ إبْطَالَ حَقِيْقَةِ اليَدِ والسَّاقِ، ونَفْيَهَا وجَعْلَهَا مَجَازًا، كَمَا زَعَمْتَ مِنِ اسْتِدْلالِكَ بمَجْمُوْعِ الآيَاتِ، لَيْسَ هَذَا إلَّا قَوْلُ الجَهَمِيَّةِ المُعَطِّلَةِ، وتَبِعَهُم عَلَيْهِ المُعْتَزِلَةُ، وبَعْضُ المُتَأخِّرِيْنَ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلى أبي الحَسَنِ الأشْعَرِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى، عِلْمًا بِأنَّ الأشْعَرِيَّ وقُدَمَاءَ أصْحَابِهِ يُثْبِتُوْنَ حَقِيْقَةِ اليَدِ للهِ، على الوَجْهِ اللَّائِقِ بِهِ تَعَالى،  ويُبَدِّعُوْنَ مَنْ يُحَرِّفُهَا أو يَنْفِيْهَا، وأظُنُّكَ لا تَقُوْلُ بقُوْلِ هَؤلاءِ المُبْتَدِعَةِ إنْ شَاءَ اللهُ .
ثَامِنًا : لا شَكَّ أنَّكُم أثْبَتْم مِنَ اليَدِ والسَّاقِ لازَمَهَا مَعَ نَفِي المَلْزُوْمِ، وهَذَا تَنَاقُضٌ بَيِّنٌ، بَلْ فِيْهِ دِلالَةٌ على فَسَادِ اللَّازِمِ الَّذِي صِرْتُم إلَيْهِ؛ حَيْثُ إنَّ في إثْبَاتِ اللَّازِمِ دَلِيْلًا على إثْبَاتِ المَلْزُوْمِ، والعَكْسُ صَحِيْحٌ، ففِي جَمْعِكِم بَيْنَ الإثْبَاتِ والنَّفْي تَنَاقُضٌ، وذَلِكَ في إثْبَاتِكِم للنِّعْمَةِ والبُخْلِ والشِّدَّةِ، وإنْ كَانَتْ هَذِهِ مِنْ لازِمِ الألْفَاظِ مَعَ نَفْيِكِم لحَقِيْقَةِ اليَدِ والسَّاقِ الثَّابِتَتَيْنِ حَقِيْقَةً للهِ تَعَالى .

* * *

الرَّدُّ الثالثُ : على مَسْالَةِ «الصُّفْرَةِ» .
فأقُوْلُ واللهُ المُسْتَعَانُ : لقَدْ ذَكَرْتُم لَنَا قَوْلَيْنَ في تَفْسِيْرِ قَوْلِهِ تَعَالى : «قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال انه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين» الآية، ولم تُرجِّحْ أحَدَ القَوْلَيْنَ على الآخَرِ .
أوَّلاً : لا شَكَّ أنَّكَ كفَيْتَنَا مَئُوْنَةَ الرَّدِّ على أهْلِ القَوْلِ الثَّاني، مِنْ خِلالِ بَيَانِ أدِلَّةِ القَوْلَيْنِ، فجَزَكَ اللهُ خَيْرًا، ففِي ذِكْرِ أدِلَّتِهِمَا غُنْيَةٌ لمَنْ أرَادَ الحَقَّ .
ثَانِيًا : فأهْلُ القَوْلِ الثَّاني الَّذِيْنَ يَقُوْلُونَ أنَّ مَعْنَى «الصُّفْرَةِ» في الآيَةِ : هُوَ اللَّوْنُ الأسْوَدِ، نَقُوْلُ لَهُم : هَلْ تَعَسَّرَ على اللهِ تَعَالى أنْ يَذْكُرَ لَوْنَ البَقَرَةِ بأنَّهَا سَوْدَاءُ دُوْنَ إبْهَامٍ وإيْغَالٍ في بَيَانِ المَعْنَى؟، عِلْمًا أنَّ كِتَابَ اللهِ تَعَالى غَايَةٌ في البَيَانِ والفَصَاحَةِ والإرْشَادِ؟ ولا شَكَّ أنَّ الجَوَابَ عِنْدَ الجَمِيْعِ : كَلَّا!
ثَالِثًا : أنَّنا نَقْرأ في غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ القُرْآنِ أنَّ اللهَ تَعَالى قَدْ وَصَفَ أشْيَاءَ كَثِيْرَةً بأنَّهَا سَوْدَاءُ، كالوُجُوْهِ وغَيْرِهَا، فهَلْ كَانَ للبَقَرَةِ مِنَ الغُمُوْضِ والصُّعُوْبَةِ مَا لَيْسَ لغَيْرِهَا؟!
رَابِعًا : لَو وُجِدَ في اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ مَا هُوَ في مَعْنَى أهْلِ القَوْلِ الثَّاني فَلا بُدَّ لَهُ مِنْ صَارِفٍ، وحَيْثُ لا صَارِفَ، ولا قَرِيْنَةَ هُنَا تَصْرِفُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ، فإنَّ هَذَا التَّأوِيْلَ يُعْتَبَرُ مِنْ قَبِيْلِ التَّأوِيْلِ الفَاسِدِ المَرْدُوْدِ .
خَامِسًا : أنَّ الصُّفْرَةَ قَدْ تُطْلَقُ في اللُّغَةِ على المَعْنَيَيْنِ (الأصْفَرِ، والأسْوَدِ) إذَا كَانَ اللَّفْظُ مُطْلَقًا، أمَّا إذَا قُيِّدَتْ الصُّفْرَةُ بالفُقُوْعِ فَلا تَحْتَمِلُ إلَّا الصُّفْرَةَ المَعْهُوْدَةَ، كَمَا قَالَ أبو حيَّانَ وغَيْرُهُ[1] .
وقَبْلَ الخِتَامِ أحْبَبْتُ أنْ ادْعُوَا اللهَ تَعَالى لي ولَكَ بالثَّبَاتِ على الحَقِّ، وأنْ يَغْفِرَ لَنَا ذُنُوْبَنَا ويَرْحَمَنَا، وأنْ يُرِيْنَا الحَقَّ حَقًّا ويَرْزُقَنَا اتِّبَاعَهُ، والبَاطِلَ بَاطِلًا ويَرْزُقَنَا اجْتِنَابَهُ آمِيْنَ
والصَّلاةُ والسَّلامُ على عَبْدِهِ ورَسُوْلِه الأمِيْنِ

* * *

مَلْحُوْظَةٌ : الرَّجَاءُ مِنَ القَائِمِيْنَ على مَجَلَّةِ الشَّقَائِقِ قَبُوْلُ هَذَا الرَّدِّ العِلْمِيِّ بصَدْرٍ رَحْبٍ، كَمَا عَهِدْنَاكُم واللهُ حَسِيْبُكُم، وأنْ لا تُحْرِمُوا القُرَّاءَ والمُحَبِّيْنَ لمَجَلَّتِكِم الفَائِدَةَ المَنْشُوْدَةَ لخُطُوْرَةِ المَوْضُوْعِ .
وإذَا كَانَ الرَّدُّ فِيْهُ شَيءٌ مِنَ الطُّوْلِ، فليَكُنْ نَشْرُهُ على ضَوْءِ حَلَقَاتٍ، واللهُ يَرْعَاكُم .

وإذَا أرَادَ الأخُ (الدُّكْتُوْرُ) : عُمُرُ الأسْعَدُ، أنْ يَكُوْنَ هُنَاكَ بَعْضُ التَّفاصِيْلِ، والزِّيَادَةِ في الرُّدُوْدِ والمُنَاقَشَاتِ العِلْمِيَّة، فلتَكُنْ عَبْرَ عُنْوَاني المَذْكُوْرِ، أو عَبْرَ مَجَلَّةِ الشَّقَائِقِ، وهُوَ أفْضَلُ لعُمُوْمِ الفَائِدَةِ .
 
 
 

المَمْلَكَةُ العَرَبِيَّةُ السُّعُوْدِيَّةُ

الطَّائِفُ المَأنُوْسُ
وكَتَبَهُ

 ذيَابُ بنُ سَعْدِ آل حَمدَانَ الغَامِدي
 
الطَّائِفُ،  ص.ب .( 1979)
التَّارِيُخ ( 2/1/1418)


[1]ـ انظر »مختصر الصواعق المرسلة« لابن القيم، و»فتح القدير للشوكاني، و»المنهل الرقراق« للهلالي، و»النهر« لأبي حيان (142/1)، وغيرها كثير .

 
اسمك :  
نص التعليق : 
      
 
 
 

 
 
 اشتراك
 انسحاب
اشتراك
انسحاب
 المتواجدون حاليا: ( 34 )
 الزيارات الفريدة: ( 2649187)