"جامع الأصول التسعة" للشيخ الشامي
عدد مرات القراءة: 784031
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
 
فَقَدْ سَألَنِي كَثِيْرٌ مِنْ طُلَّابِ العِلْمِ ولاسِيَّما المتَخَصِّصِينَ بكُتُبِ الحَدِيْثِ قِرَاءَةً وتَدْرِيْسًا وحِفْظُا ... عَنِ الكِتَابِ المَوْسُوعِي الَّذِي أصْدَرَهُ الشَّيْخُ: صَالِحُ بنُ أحْمَدَ الدُّومي الشَّامِيُّ، تَحْتَ عِنْوَانِ: «
جَامِعِ الأُصُولِ التِّسَعَةِ»، ومَا لَهُ، وما عَلَيْهِ.
قُلْتُ: وعَلَيْهِ؛ فَهَذِهِ بَعْضُ الإضَاءَاتِ حَوْلَ كِتَابِ الشَّيْخِ الشَّامِي، بشَيءٍ مِنَ الاختِصَارِ، واللهُ المُوفِّقُ:
لا شَكَّ أنَّ الشَّيْخَ الشَّاميَّ حَفِظَهُ اللهُ: هُوَ رَبِيْبُ بِيُوتَاتِ العِلْمِ المَشْهُورَةِ في بِلادِ الشَّامِ، وأبَاهُ أحَدُ شُيُوخِ المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ في عَصْرِهِ ومِصْرِهِ!
لِذَا؛ فَلَيْسَ بغَرِيْبٍ أنْ يَكُوْنَ هَذَا الشَّيْخُ مِنْ أصْحَابِ السُّنَّةِ والأثَرِ، اقْتِدَاءً بإمَامِ أهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ أحمَدَ بنِ حَنْبَلٍ، إمَامِ كُلِّ حَنْبليٍّ!
هَذَا إذَا عَلِمَ الجَمِيْعَ أنَّ الشَّيْخَ صَالِحًا الشَّامِيَّ قَدْ أصْدَرَ مَجْمُوعَةً مِنَ الكُتُبِ الحَدِيْثيَّةِ، الَّتِي يُمثِّلُ غَالِبُهَا زَوَائِدَ كُتُبِ السُّنَّةِ، ابْتِدَاءً بكِتَابِه: «
الجَامِعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ»، ومُرُورًا بكِتَابِ: «زَوَائِدِ المُوطَّأ والمُسْنَدِ»، و«زَوائِدِ ابنِ خُزَيْمَةَ وابنِ حِبَّانَ والمُسْتَدْرَكِ»، و«زَوَائِدِ السُّنَنِ الكُبْرَى للبَيْهَقِيِّ»، و«زَوَائِدِ الأحَادِيْثِ المُخْتَارَةِ للضِّيَاءِ المَقْدِسيِّ»، وانْتِهَاءً بكِتَابِ «جَامِعِ الأُصُولِ التِّسَعَةِ»!
ومَنْ نَظَرَ في مُجَامِيْعِ كُتُبِ الشَّيْخِ الشَّاميِّ، وفي تَصَارِيْفِ مُعَنْونَاتِها: عَلِمَ أنَّهُ أحَدُ أعْلامِ العَصْرِ الَّذِيْنَ رَفَعُوا أعْلامَ «
فَنِّ الزَّوَائِدِ» الَّذِي كَادَ أنْ يَنْدَثِرَ، إلَّا في بَقَايَا مِنْ غُبَّارَاتِ بَعْضِ المُشْتَغِلِينَ بالسُّنَّةِ مِنْ أهْلِ عَصْرِنَا!
فعِنْدَهَا رَفْرَفَتْ أعْلامُ السُّنَّةِ بِمَا صَنَعَهُ الشَّاميُّ مِنْ خِلالِ مَعْلَمَةٍ كَبِيْرَةٍ، ومَشْرَعَةٍ مُبَارَكَةٍ، تَحْتَ عِنْوَانِ: «
جَامِعِ الأُصُولِ التِّسَعَةِ»، أي: جَامِعِ أحَادِيْثِ كُتُبِ السُّنَّةِ التِّسْعَةِ الَّتِي تُعْتَبَرُ عِنْدَ عُلَماءِ الإسْلامِ: أُصُولًا للسُّنَّةِ، ومَرْجِعًا للأُمَّةِ!
وهِيَ: الصَّحِيْحَانِ (البُخُارِيُّ ومُسْلِمٌ)، والسُّنَنُ الأرْبَعُ (التِّرْمِذِيُّ وأبو دَاودَ والنَّسَائيُّ وابنُ مَاجَه)، ومُوَطَّأ مَالِكٍ، ومُسْنَدُ الإمَامِ أحْمَدَ، وسُنَنُ الدَّارمِيِّ!
* * *
ومِنْ هُنَا؛ فَإنِّي أحْبَبْتُ أنْ أُذَكِّرَ إخوَاني طُلَّابَ العِلْمِ بشَيءٍ مِنَ الخَصَائِصِ والمُمَيِّزَاتِ الَّتِي أخَذَتْ بمَجَامِعِ كِتَابِ: «جَامِعِ الأُصُولِ التِّسَعَةِ»، وذَلِكَ مِنْ خِلالِ إضَاءَاتٍ مُخْتَصَرَةٍ، وإشَارَاتٍ مُعْتَصَرةٍ، ولاسِيَّما أنَّنِي قَدْ قَلَّبْتُ كَثِيْرًا مِنْ صَفَحَاتِهِ، ووَقَفْتُ على مَجْمُوْعِ حَوَاشِيْهِ، وعَارَضْتُ غَالِبَ مُجَلَّدَاتِهِ، وتَصَفَّحْتُ مُعْظَمَ فَهَارِسِهِ.
فمِنْ ذَلِكَ باخْتِصَارٍ:

أوَّلًا: أنَّ هَذَا الكِتَابَ يُعْتَبَرُ وَاحِدًا مِنْ أجْمَعِ كُتُبِ السُّنَّةِ المَطْبُوعَةِ في هَذَا الوَقْتِ؛ لكَوْنِهِ جَمَعَ أُصُولَ كُتُبِ السُّنَّةِ دُوْنَ خِلافٍ بَيْنَ أهْلِ السُّنَّةِ، وهِيَ: الصَّحِيْحَانِ، والسُّنَنُ الأرْبَعُ، والمُوَطَّأ، والمُسْنَدُ الأحْمَدي، وسُنَنُ الدَّارمِيِّ!
ثَانِيًا: أنَّهُ نَظَمَ كِتَابَهُ مِنْ خِلالِ تَرْتِيْبٍ بَدِيْعٍ يَتَماشَى مَعَ مَنَاهِجِ أصْحَابِ «السُّنَنِ الأرْبَعِ» في تَرْتِيْبِ أبْوابِهِم؛ خِلافًا لطَرِيْقَةِ أصْحَابِ المَسَانِيْدِ، والمَعَاجِمِ ونَحْوِهَا!
وهَذَا في حَدِّ ذَاتِهِ مِنَ اليُسْرِ والتَّقْرِيْبِ والتَّرْتِيْبِ الَّذِي يَعْرِفُهُ أهْلُ العِلْمِ عَامَّةً، وأصْحَابُ الحَدِيْثِ خَاصَّةً، كَمَا هُوَ سَائِرٌ في مَنَاهِجِهِم قَدِيْمًا وحَدِيْثًا.
ولَوْلا ذَا؛ لأصْبَحَ كِتَابُ: «
المُسْنَدِ المُصَنَّفِ المُعَلَّلِ» الَّذِي ألَّفَهُ المُحُقِّقُ الكَبِيْرُ بَشَّار عَوَّادٌ وجَمَاعَةٌ: آيَةًّ مِنْ آيَاتِ مُصَنَّفَاتِ أهْلِ العِلْمِ قَدِيْمًا وحَدِيْثًا دُوْنَ مُنَازِعٍ، فعَسَاهُم يُرَتِّبُونَهُ على طَرِيْقَةِ كُتُبِ أهْلِ السُّنَنِ في طَبْعَتِهِ الجَدِيْدَةِ، واللهُ المُوَفِّقُ للصَّوَابِ!
وذَلِكَ في الوَقْتِ الَّذِي لم تَزَلْ تَتَنَادَى فِيْهِ بَعْضُ المَشَارِيْعِ الجَامِعَةِ لكُتُبِ السُّنَّةِ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وللوُعُوْدِ عُهُوْدٌ، ونَحْنُ بالانْتِظَارِ!

ثَالِثًا: أنَّهُ قَرَّبَ أحَادِيْثَ الكُتُبِ التِّسْعَةِ تَقْرِيْبًا لا مَثِيْلَ لَهُ؛ حَيْثُ أنَّهُ لم يَتَجَاوزْ شَيْئًا مِنْ أحَادِيْثِ الكُتُبِ التِّسْعَةِ إلَّا وضَمَّنَهُ كِتَابَهُ، سَوَاءٌ كَانَتْ أحَادِيْثَ مَرْفُوْعَةٍ، أو مُعَلَّقَاتٍ!
وهَذَا الجُهْدُ الكَبِيْرُ، والجَمْعُ الوَفِيْرُ؛ مِمَّا يَقْطَعُ بتَقَدُّمِ كِتَابِ الشَّاميِّ على كِتَابِ
«جَامِعِ الأُصُوْلِ» لابنِ الأثِيْرِ رَحِمَهُ اللهُ؛ لأُمُورٍ لَيْسَ هَذَا مَحَلُّ ذِكْرِهَا، فمِنْهَا باخْتِصَارٍ:
أنَّ ابنَ الأثِيْرِ رَحِمَهُ اللهُ لم يَعْتَمِدْ أُصُولَ الصَّحِيْحَيْنَ (البُخَاريِّ ومُسْلِمٍ)، بَلِ اعْتَمَدَ على «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَينِ» للحُمَيْدِيِّ رَحِمَهُ اللهُ، وهَذَا الصَّنِيْعُ فِيْهِ مَا فِيْهِ، هَذَا إذا عَلِمَ الجَمِيْعُ أنَّ كِتَابَ الحُمَيْدِي لم يَقْتَصِرْ على جَمْعِ أحَادِيْثِ الصَّحِيْحَيْنَ فَقَطْ، بَلْ كِتَابُهُ يُعَدُّ وَاحدًا مِنْ كُتُبِ المُسْتَخْرجَاتِ على الصَّحِيْحَيْنَ في الجُمْلَةِ.
2ـ أنَّهُ لم يُضَمِّنْ «سُنَنَ ابنِ مَاجَه» في جَامِعِهِ، وإنْ كَانَ هَذَا ضَرْبًا مِنَ الاجْتِهَادِ؛ إلَّا أنَّهُ مَحَلُّ نَظَرٍ وانْتِقَادٍ عِنْدَ بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ الكِبَارِ!
3ـ أنَّهُ لم يَعْتَمِدْ على أصْلِ «المُوطَّأ»، بَلِ اعْتَمَدَ على جَمْعِ ابنِ رزيْنٍ رَحِمَهُ اللهُ، وهَذَا مَا يَدُلُّنَا على وُجُوْدٍ خَلَلٍ ظَاهِرٍ على «جَامِعِ» ابنِ الأثِيْرِ رَحِمَهُ اللهُ، لا يسَعُهَا هَذَا المَقَالُ.
رَابِعًا: أنَّهُ حَذَفَ أسَانِيْدَ الأحَادِيْثِ إلَّا مَا تَوَقَّفَتْ عَلَيْهِ الفَائِدَةُ، سَوَاءٌ كَانَتْ في مِتْنَهِ أو سَنَدِهِ، مِمَّا يَعْرِفُهُ أهْلُ العِلْمِ.
ومَا ذَا الحَذْفُ؛ إلَّا أنَّ الشَّامِي أرَادَ بكِتَابِهِ أنْ يَكُوْنَ مُقَرِّبًا لمَجْمُوْعِ أحَادِيْثِ الكُتُبِ التِّسْعَةِ بَيْنِ يَدَيْ عَامَّةِ المُسْلِمِيْنَ؛ لأنَّ البَحْثَ والتَّنْقِيْبَ عَنِ الأسَانِيْد لهُوَ مِنْ شَأنِ الخَاصَّةِ، مِمَّنْ لهُم عِنَايَةٌ بالصِّنَاعَةِ الحَدِيْثِيَّةِ، الشَّيءُ الَّذِي لم يَقْصِدْهُ الشَّامِيُّ في كِتَابِهِ هَذَا؛ فتَأمَّلْ!

خَامِسًا: أنَّهُ لم يَكْتَفِ بحَذْفِ مُكَرَّرَاتِ الأحَادِيثِ دُونَ ذِكْرٍ لهَا، بَلْ ذَكَرَهَا تَحْتَ أرْقَامٍ دَالَّةٍ لمَظَانِهَا؛ قَدْ أحَاطَتْ بكُلِّ حَدِيْثٍ مُكَرَّرٍ.
وهَذَا الصَّنِيْعُ يُعْتَبرُ: اخْتِصَارًا دَقِيْقًا لا يُحْسِنُهُ إلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللهُ؛ حَيْثُ أنَّهُ جَمَع بَيْنَ طَرِيْقَةِ الحَذْفِ وطَرِيْقَةِ الجَمْعِ، فَلا هُو مَحْذُوْفٌ مَعْنًى ولا هُوَ مَذْكُوْرٌ مَبْنًى، بَلْ كُلُّ حَدِيْثٍ مُكَرَّرٍ جَاءَ مُقَيَّدًا تَحْتَ رَقْمٍ دَالٍّ على مَوْضِعِهِ ومَوْطِنِهِ في كِتَابِ:
«جَامِعِ الأُصُولِ التِّسَعَةِ».
سَادِسًا: أنَّهُ لم يَكْتَفِ بسَرْدِ الأحَادِيْثِ دُوْنَ بَيَانٍ لغَرِيْبِهَا، وذِكْرٍ لبَعْضِ فَوَائِدِهَا، مِمَّا قَدْ يَسْتَغْلِقُ فَهْمُهَا على كَثِيْرٍ مِنَ المُسْلِمِيْنَ ؛ حَيْثُ دَبَّجَ كَثِيْرًا مِنْهَا بكَلامِ أهْلِ العِلْمِ المُعْتَبَرينَ، لاسِيَّما البَغَوِي، والنَّوَوِي، وابنِ حَجَرٍ، وغَيْرِهِم.
سَابِعًا: أنَّهُ لم يَتَجَاوَزْ كَثِيْرًا مِنْ مَسَائِلِ العَقِيْدَةِ إلَّا وقَدْ مَسَّهَا بشَيءٍ مِنَ التَّوضِيْحِ والبَيَانِ مِمَّا هُوَ جارٍ على مَنْهَجِ أهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ.
وفَوْقَ ذَلِكَ أنَّهُ : ذَكَرَ ضَابِطًا عَزِيْزًا في التَّعَامُلِ مَعَ كُلِّ أحَادِيْثِ الأسْمَاءِ والصِّفَاتِ؛ حَيْثُ قَالَ حَفِظَ اللهُ مُعَلِّقًا على حَدِيْثِ (103) (1/110): «قَاعِدَةُ أهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ في بَابِ الأسْمَاءِ والصِّفَاتِ، كَمَا يَلي:
أنَّهُم في بَابِ الإثْبَاتِ: يُثْبِتُوْنَ مَا أثْبَتَهُ اللهُ تَعَالى لنَفْسِهِ مِمَّا جَاءَ في الكِتَابِ والسُّنَّةِ الصَّحِيْحَةِ على الوَجْهِ اللَّائِقِ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيْفٍ ولا تَعْطِيْلٍ ومِنْ غَيْرِ تَكْيِيْفٍ ولا تَمْثِيْلٍ.
وأنَّهُم في بَابِ النَّفي: يَنْفُوْنَ مَا نَفَاهُ اللهُ تَعَالى عَنْ نَفْسِهِ في الكِتَابِ والسُّنَّةِ مَعَ إثْبَاتِ كَمَالِ ضِدِّهَا.
لأنَّ النَّفيَ المَحْضَ عَدَمٌ، والعَدَمَ لَيْسَ شَيْئًا؛ فَضْلًا أنْ يَكُوْنَ كَمَالًا!
وعَلَيْهِ؛ فإنَّهُم إذَا نَفَوْا عَنِ اللهِ تَعَالى مَثَلًا: العَجْزَ أثْبَتُوا لَهُ كَمَالَ القُوَّةِ، وإذا نَفَوْا عَنْهُ السِّنَةَ والنَّوْمَ أثْبَتُوا لَهُ كَمَالَ القَيُّومِيَّةِ، وإذا نَفَوْا عَنْهُ الوَلَدَ أثْبَتُوا لَهُ كَمَالَ الوَحْدَانِيَّةِ، وهَكَذَا.
وعلى هَذِهِ القَاعِدَةِ: فَقَدْ أجْمَعَ أهْلُ السُّنَّةِ والجَمَاعَة سَلَفًا وخَلَفًا» انْتَهَى.
وهَذَا الضَّابِطُ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ: لم يَدَعْ لأهْلِ الأهْوَاءِ والبِدَعِ بَابًا يَلِجُوْنَ إلَيْهِ، أو مَلْجَئًا يتَطَرَّقُوْنَ مِنْ خِلالِه إلى إثَارَةِ قَالاتِهِم أو تَسْوِيْقِ مَقَالاتِهِم، فَجَزَاهُ اللهُ عَنِ السُّنَّةِ وأهْلِهَا خَيْرَ الجَزَاءِ!
وانْظُرْ مَا قَالَهُ مُعَلِّقًا تَحْتَ الأحَادِيْثِ الآتِيَةِ: (588)، و(837)، و(4596)، و(4822)، و(8237)، و(10344)، و(14466)، وهَذَا الحَدِيْثُ الأخِيْرُ يتَعَلَّقُ بمَسْألَةِ «صُوْرَةِ الرَّحْمَنِ»، وهُوَ مِنْ أحَادِيْثِ أهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ الَّتِي تَمَيَّزُوا بِهَا عَنْ غَيْرِهِم مِنْ أهْلِ الأهْوَاءِ والبِدَعِ، وعَلَيْهِ فَقْدَ حَصْحَصَ الشَّيْخُ الشَّاميُّ في هَذَا الحَدِيْثَ الحَقَّ الَّذِي عَلَيْهِ مَنْهَجُ أهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ، فجَزَاهُ اللهُ خَيْرًا!

ثَامِنًا: أنَّهُ لم يَكْتَفِ بسَرْدِ الأحَادِيْثِ دُوْنَ بَيَانٍ لحُكْمِهَا صِحَّةً وضَعْفًا، رَدًّا وقَبُولًا، مِمَّا هُوَ خَارِجٌ عَنِ الصَّحِيْحَيْنَ، مُسْتَأنِسًا بأحْكَامِ مَنْ سَبَقَهُ مِنْ أهْلِ العِلْمِ، لاسِيَّما مَا ذَكَرَهُ مُحَدِّثُ العَصْرِ الألْبَاني رَحِمَهُ اللهُ، ومَا ذَكَرَهُ أصْحَابُ «مُؤسَّسَةِ الرِّسَالَةِ» في تَحْقِيْقِهِم لـ«المُسْنَدِ»، وعَبْدُ القَادِرِ الأرْنَاؤوْطُ، وحُسَيْنٌ الدَّارَانيُّ رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالى، وغَيْرِهِم مِنَ المُحَقِّقِيْنَ، وهَذَا في حَدِّ ذَاتِهِ، يُعْتَبَرُ مِنْ مُهِمَّاتِ فُنُوْنِ التَّألِيْفِ، ومِنْ دُرَرِ جَمَالِيَّاتِ كُتُبِ السُّنَّةِ، فجَزَاهُ اللهُ خَيْرًا.
وبِهَذَا، يَكُوْنُ الشَّيْخُ الشَّاميُّ قَدْ قَرَّبَ لعُمُوْمِ المُسْلِمِيْنَ: أحْكَامَ أحَادِيثِ
«الجَامِعِ» في الجُمْلَةِ، أمَّا مَنْ أعْطَاهُ اللهُ بَصِيْرَةً في مُنَاَزَعَةِ الأحَادِيْثِ النَّبَويَّةِ مِنْ خِلالِ مُحَاكَمَتِهَا رَدًّا وقَبُولًا، جَرْحًا وتَعْدِيلًا؛ فَلَهُ أنْ يَرْكَنَ إلى صِنَاعَتِهِ الحَدِيثِيَّةِ، أمَّا مَنْ كَانَ دُوْنَ ذَلِكَ فيَسَعُهُم تَقْلِيْدُ أهْلِ الشَّأنِ مِنَ جَهَابِذَةِ الحَدِيْثِ مِنَ المُتَقَدِّمِيْنَ والمُتَأخِّرِيْنَ، لاسِيَّما مِمَّا قَلَدَهُم الشَّيْخُ الشَّامِيُّ في كِتَابِهِ هَذَا، اسْتِنَادًا لقَوْلِهِ تَعَالى: «فاسْألَوا أهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُم لا تَعْلَمُوْنَ».
تَاسِعًا: أنَّهُ اعْتَمَدَ في كِتَابِهِ: «جَامِعِ الأُصُولِ التِّسَعَةِ» على طَبَعَاتٍ مُعْتَمَدَةٍ في الجُمْلَةِ، مِمَّا مَضَى عَلَيْهَا النَّاسُ قَدِيْمًا؛ لاسِيَّما أهْلُ العِلْمِ المُعْتَبرينَ، دُوْنَ الوُقُوْفِ كَثِيْرًا مَعَ الطَّبَعَاتِ الجَدِيْدَةِ إلَّا مَا سَيَأتي ذِكْرُهُ إنْ شَاءَ اللهُ.
ولم يَكُنْ إغْفَالُ الشَّيْخُ الشَّاميُّ عَنْ جَدِيْدِ الطَّبَعَاتِ رَغْبَةً عَنْهُا، كَلَّا!

بَلْ لعِلْمِهِ السَّابِقِ : أنَّ مَسْألَةَ تَحْقِيْقَاتِ كُتُبِ السُّنَّةِ لا تَقِفُ عِنْدَ طَبْعَةٍ دُوْنَ أُخْرَى، أو رَجُلٍ دُوْنَ غَيْرِهِ، فَهِي مِنْ مَسَارِحِ الخِلافِ الَّذِي لا يَنْتَهِي غَالِبًا إلى حَدٍّ!
يُوضِّحُهُ؛ أنَّ مُحقِّقِي
«كُتُبِ السُّنَّةِ» مِنْ أهْلِ زَمَانِنَا: لم يَرْضَ كَثِيْرٌ مِنْهُم صَنِيعَ الآخَرِ، بَلْ حَسْبُكَ أنَّ «صَحِيْحَ البُخَارِي» على جَلالَتِهِ وعَظِيْمِ مَوْقِعِهِ: لم يَقَعْ مَوْقِعَ الرِّضَا عِنْدَ كَثِيْرٍ مِنْ أرْبَابِ التَّحْقِيْقِ مِنْ أهْلِ زَمَانِنا، بَلْ لم تَزَلْ دَعَاوِي كَثِيْرٍ مِنَ المُحَقِّقِيْنَ: تُلاحِقُ الآخَرِيْنَ بالتَّهْدِيْدِ والوَعِيْدِ!
وآيَةُ ذَلِكَ؛ أنَّكَ لا تَفْرَحُ بكِتَابٍ قَدْ حَقَّقَهُ صَاحِبُهُ تَحقِيقًا عِلمِيًّا؛ إلَّا وسُرْعَانَ مَنْ يَأتي مِنَ المُحَقِّقِيْنَ مَنْ يَنْقُضُ غَزْلَهُ، ولَو بشَيءٍ مِنَ الاسْتِدْراكَاتِ اليَسِيْرَةِ الَّتِي لا يَسْلَمُ مِنْهَا كِتَابٌ فَضْلًا عَنْ تَحقِيقٍ،
(سِوَى القُرْآن)!
وإنْ كُنَّا جَمِيْعًا لا نُقَلِّلُ قَدْرًا مِنْ أهَمِّيَّةِ تَحْقِيْقِ كُتُبِ السُّنَّةِ وغَيْرِهَا؛ لأنَّ التَّحْقِيْقَ العِلْمِيَّ يُعْتَبَرُ إحْيَاءً للكُتُبِ بَعْدَ مَوَاتِهَا؛ لكِنَّنا في الوَقْتِ نَفْسِهِ نُعِيْبُ على مَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ على طَبْعَةٍ دُوْنَ أُخْرَى؛ لاسِيَّما إذا كَانَتْ تِلْكُمُ الطَّبْعَةُ الَّتِي اعْتَمَدَهَا صَاحِبُهَا: مَشْهُوْرَةً مُتَداوَلَةً، وقَدْ قُرِأتْ على أهْلِ العِلْمِ، وتَنَاقَلُوْهَا دُوْنَ نَكِيْرٍ!
لِذَا؛ فاعْتِمَادُ الشَّيْخُ الشَّامِيِّ على شَيءٍ مِنْ مَطْبُوعَاتِ كُتُبِ السُّنَّةِ مِمَّا هُوَ مَقْرُوءٌ على أهْلِ العِلْمِ، ومَشْهُورٌ بَيْنَهُم: لا تَثْرِيْبَ فِيْهِ!
عِلْمًا أنَّ الشَّيْخَ حَفِظَهُ اللهُ لم يَغْفَلْ هَذَا البَابَ، بَلْ نَرَاهُ قَدْ عَارَضَ بَعْضَ كُتُبِ السُّنَّةِ المَطْبُوعَةِ قَدِيْمًا بمَطْبُوعَاتِهَا الحَدِيْثَةِ: كالمُسْنَدِ، وسُنَنِ الدَّارِميِّ، وشَيءٍ مِنْ سُنَنِ التِّرمِذيِّ في مُلْحَقَاتِهِ، وغَيْرِهَا.
ومِنْ لَطَائِفِ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ عِنْدَ مُعَارَضَتِهِ لمَطْبُوعِاتِ
«المُسْنَدِ»: وُقُوفُهُ على فَائِدَةٍ عَزِيْزَةٍ بِهَا: قَطَعَتْ جَهِيْزَةُ قَوْلَ كُلِّ خَطِيْبٍ، بَلْ إخَالُهَا كَشَفَتْ لَنَا كَثِيْرًا مِنْ دَعَاوِي مُحَقِّقِي العَصْرِ إلَّا مَا رَحِمَ رَبُّكَ.
وهُوَ مَا ذَكَرَهُ بَعْدَ دِرَاسَتهِ للأحَادِيْثِ الَّتِي اسْتَدْرَكَتْهَا طَبْعَةُ
«دَارِ المِنْهَاجِ» على «مُؤسَّسَةِ الرِّسَالَةِ» في أكْثَرِ مِنْ مائَةِ حَدِيْثٍ: بأنَّهَا مِنْ مُكَرَّرَاتِ «المُسْنَدِ»؛ باسْتِثْنَاءِ سَبْعَةِ أحَادِيْثَ، أرْبَعَةٌ مِنْهَا انْفَرَدَ بِهَا الإمَامُ أحْمَدُ عَنِ الكُتُبِ الثَّمانِيَةِ (وقَدْ ذَكَرَ أرْقَامَهَا)، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهَا: وقَدْ تَمَّ وَضْعُ هَذِهِ الأحَادِيْثِ وِفْقًا لمَوْضُوعَاتِهَا في هَذَا الكِتَابِ.
وأمَّا الثَّلاثَةُ الأُخْرَى
(وقَدْ ذَكَرَ أرْقَامَهَا)، فالأوَّلُ والثَّاني أخْرَجَهُمَا البُخَارِيُّ، والثَّالِثُ أخْرَجَهُ الدَّارميُّ، وهَذِهِ لطِيْفَةٌ تُحْسَبْ للشَّيْخِ الشَّامِي حَفِظَهُ اللهُ.
قُلْتُ : لَيْتَ القَائِمِيْنَ على تَحْقِيْقِ «المُسْنَدِ» في «دَارِ المِنْهَاجِ» قَيَّدُوا هَذِهِ الأحَادِيْثِ الثَّمانِيَةِ أو المَائَةِ ودَفَعُوْهَا لإخْوَانِهِم في «مُؤسَّسَةِ الرِّسَالَةِ» كَي يَسْتَدْرِكُوهَا في طَبْعَتِهِم الجَدِيْدَةِ لَيْسَ إلَّا، أو لَيْتَهُم نَشَرُوْهَا بَيْنَ أيْدِي إخْوانِهِم طُلَّابِ العِلْمِ، والسَّلامُ خِتَامٌ!
وقَالَ الشَّيْخُ أيْضًا عَنْ طَبْعَةِ
«سُنَنِ الدَّارِميِّ»: أنَّهُ اعْتَمَدَ أوَّلًا على تَحْقِيْقِ فَوَّاٍز زَمْزلي وخَالِدٍ السَّبعِ، ثُمَّ قَارَنها أيْضًا على تَحْقِيْقِ مُصْطَفى الُبَغا، ثُمَّ لم يَكْتَفِ بذَلِكَ؛ حَيْثُ قَالَ: ثُمَّ صَدَرَتْ مُؤخَّرًا طَبْعَةٌ بتَحْقِيْقِ الأُسْتَاذِ حُسَيْنٍ الدَّارانيِّ، وقَدْ قَارَنَ الأحَادِيْثَ الَّتي انْفَرَدَ بِهَا الدَّارَانيُّ عَنِ الكُتُبِ الثَّمانِيَةِ، وعَدَّلَ أرْقَامَهَا، لَيْسَ إلَّا!
كَمَا أنَّنا مَعَ هَذَا التَّنْبِيهِ عَنْ مَسْرَحِ تَحْقِيْقِ الطَّبَعَاتِ؛ لا نُثْنِي عَزِيْمَةَ الشَّيْخِ الشَّاميِّ حَفِظَ اللهُ في طَبْعَتِهِ الثَّانِيَةِ لكِتَابِهِ
: «جَامِعِ الأُصُولِ التِّسَعَةِ»: بأنْ يُعَارِضَ ويُرَاجِعَ مَصَادِرَه على مَطْبُوعَاتِها الجَدِيْدَةِ المُحَقَّقَةِ تَحْقِيقًا عِلْمِيًا؛ ولاسِيَّما مَا حَقَقَتْهُ مُؤسَّسَةُ الرِّسَالَةِ: للصَّحِيْحَيْنِ، والسُّنَنِ الأرْبَعِ، وكَذَا مَا حَقَّقَتْهُ «دَارُ التَّأصِيْلِ»، وغَيْرُهُمَا.
عَاشِرًا: أنَّهُ طَوَى مُقَدِّمَةَ كِتَابِهِ على دُرَرٍ حَدِيْثيَّةٍ وإحْصَائِيَّاتٍ رَقْمِيَّةٍ لم يُسْبَقْ إلَيْهَا فِيْمَا أعْلَمُ: مَا بَيْنَ تِعْدَادٍ لأحَادِيْثِ الكُتُبِ التِّسْعَةِ، وبَيَانِ مُكَرَّرَاتِهَا، وتَمْيِيْزِ زَوَائِدِهَا مِمَّا يَسْتَمْلِحُهَا أرْبَابُ النَّظَرِ، ويَحَارُ أمَامَهَا رُوَّادُ الفِكْرِ؛ فللَّهِ دَرُّهُ، وعلى اللهِ أجْرُهُ!
الحَادِي عَشَر: أنَّهُ خَتَمَ كِتَابَهُ بفَهَارِسَ جَامِعَةٍ مُفِيْدَةٍ قَدْ أتَتْ على جَمِيْعِ دَلالاتِ أحَادِيْثِ الكُتُبِ التِّسْعَةِ: لَفْظًا ومَعْنىً، فجَزَاهُ اللهُ خَيْرًا!
الثَّاني عَشَر: أنَّ كِتَابَهُ «جَامِعَ الأُصُولِ التِّسَعَةِ»: قَدْ خَرَجَ في أرْبَعَةَ عَشَرَ مُجَلَّدًا، والأخِيْرِ مِنْهَا: عِبَارَةٌ عن فَهَارِسَ شَامِلَةٍ عِلْمِيَّةٍ، كَمَا مَرَّ مَعَنَا، كَمَّا أنَّهُ طُبِعَ طَبْعَةً جَمِيْلَةً مُتَدَثِّرَةً بثَوْبٍ قَشِيْبٍ، وحُلَّةٍ بَهِيَّةٍ، وقَدْ تَوَلَّى كُلَّ ذَلِكَ: «المَكْتَبُ الإسْلامِيُّ»، فجَزَى اللهُ القَائِمِيْنَ عَلَيْهَا خَيْرَ الجَزَاءِ!
الثَّالِثَ عَشَر: أنَّ الجَمِيْعَ يَعْلَمُ ـ يَقِيْنًا ـ أنَّ مِثْلَ هَذَا المَشْرُوْعَ الكَبِيْرَ، والعَمَلَ العَظِيْمَ الَّذِي يَضُمُّ بَيْنَ دَفَّتَيْهِ: جَمْعَ وتَرْتِيْبَ وتَحْقِيْقَ أحَادِيْثِ الكُتُبِ التِّسْعَةِ؛ لهُوَ مِنَ الأعْمَالِ الَّتِي لا يَقْوَاهَا، ولا يُطِيْقُهَا إلَّا كَوْكَبَةٌ مِنْ أهْلِ الحَدِيْثِ المُتَخَصِّصِيْنَ!
لكِنَّ العَجَبَ لا يَقِفُ عِنْدَ هَذَا؛ بَلْ يَتَعَدَّاهُ إذا عَلِمَ الجَمِيْعُ أنَّ هَذَا العَمَلَ الكَبِيْرَ: قَدْ قَامَ بِهِ الشَّيْخُ الشَّامِيُ حَفِظَهُ اللهُ؛ بمُفْرَدِهِ دُوْنَ مُعِيْنِ إلَّا مِنَ اللهِ تَعَالى؛ حَيْثُ كَانَ يَعْمَلُ فِيْهِ لَيْلًا ونَهَارًا، دُوْنَ مِلالٍ ولا كِلالٍ، وذَلِكَ في الوَقْتِ الَّذِي قَدْ قَارَبَ عُمُرُ الشَّيْخِ: الثَّمانِيْنَ عَامًّا، وهُوَ مَعَ هَذَا قَدْ كَلَّتْ قُوَاهُ، ورَقَّ عَظْمُهُ؛ فأيْنَ نَحْنُ مِنْ أُولَئِكَ وهَؤلاءِ!
إنَّهُ لعَمَلٌ كَبِيْرٌ، لا يَعْرِفُهُ إلَّا مَنْ عَرَفَ حَقِيْقَةَ جَمْعِ أحَادِيْثِ السُّنَّةِ تَحْتَ أبْوَابِ مُتَفَرِّقَاتٍ، وتَحْرِيْرِ زَوَائِدِهَا تَحْتَ مُكَرَّرَاتِ... إنَّهُ لعَمَلٌ كَبِيْرٌ، لا يَدُلُّ إلَّا عَلَى صَبْرٍ وجِلادٍ، وبَحْثٍ ونَظَرٍ، وسَبْرٍ وتَفْتِيْشٍ، فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الاعْتِمَالِ فِي الصِّنَاعَةِ الحَدِيْثِيَّةِ، والتَّراتِيْبِ العِلمِيَّةِ في تَراجِمِ الأبْوابِ والفُصُولِ؛ الأمَرُ الَّذِي يَقْطَعُ بعُلُوِّ كَعْبِ صَاحِبِه، ورُسُوخِ عِلْمِهِ، ولا نُزكِّي الشَّيْخَ على اللهِ؛ بلِ اللهُ حَسِيْبُهُ ومَوْلاه!
* * *
ومِنْ نَواقِضِ الأقْوالِ بَعْدَ ذِكْرِهَا، ومِنْ تَراجُعِ الأفْكَارِ بَعْدَ رُسُوخِهَا؛ مَا كُنْتُ أقُولُهُ مِرَارًا في مَجَالِسي العِلمِيَّةِ: لَقَدِ انْتَهَى عِلْمُ الزَّوَائِدِ عِنْدَ الهَيْثَمِيِّ رُحِمَهُ اللهُ، المُتَوَفَّى سَنَةَ (807)، وإنْ رَاجَعْتُ نَفْسِي ورَاغَمْتُهَا، قُلْتُ: كُلُّ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ فهُم عِيَالٌ عَلَيْهِ!
نَعَم؛ كُنْتُ أقُولُها مُدَوِّيةً في مَجَالسي حَتَّى شَاءُ اللهُ تَعَالى أنْ أوْقَفَنِي على مَعْلَمَةٍ لا نَظِيْرَ لَهَا في عِلْمِ الزَّوَائِدِ مُتَمَثِّلَةً في كِتَابِ: «جَامِعِ الأُصُولِ التِّسَعَةِ» للشَّيْخِ صَالِحٍ الشَّامِي، فعِنْدَهَا تَيَقَّنْتُ مُجَدَّدًا: بَأنَّ الأمَّةَ وَلادَةٌ، والخَيْرَ باقٍ!
نَعَم؛ كَمْ قُلْتُ أنا وغَيْرِي: لَيْتَ فُلانًا اعْتَنَى في جَمْعِهِ بتَحْرِيْرِ فَنِّ الزَّوائِدِ، وفُلانًا لَيْتَهُ اعْتَنَى بالصِّنَاعَةِ الحَدِيْثِيَّةِ، وفُلانًا لَيْتَهُ أحْسَنَ فِي فِقْهِ أبْوابِهِ... وهَكَذَا فِي تَمَنِّيَاتٍ لا يَجْمَعُها كِتَابٌ بَيْنَ دَفَّتَيْهِ؛ حَتَّى إذا وَقَفَ المُحَدِّثُ الأرِيْبُ، والفَقِيْهُ اللَّبِيْبُ عَلَى «جَامِعِ الأُصُولِ التِّسَعَةِ» للشَّامِي، اسْتَذْكَرَ المَثَلَ السَّائِرَ: كُلُّ الصَّيْدِ فِي جَوْفِ الفَرَا!
* * *
كَمَا أنَّني هُنَا؛ لَسْتُ شَاعِرًا غَاوٍ، ولا نَاثِرًا هَاوٍ؛ بَلْ أَجِدُنِي طَالِبَ عِلْمٍ، قَدْ خَاضَ كَثِيْرًا مِنْ أُمَّاتِ كُتُبِ الحَدِيْثِ والآثَارِ مَا يَحْمِلُنِي عَلَى شَيءٍ مِنَ الحُكْمِ والاحْتِكَامِ؛ لِذَا؛ كَانَ مِنَ الوَاجِبِ أنْ أقُوْلَ: للمُحْسِنِ أحْسَنْتَ، لاسِيَّما والزَّمَانُ بَخِيْلٌ بِمِثْلِهِ، والعِلْمُ قَدْ سَكَنَ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ عِنْدَ كَثِيْرٍ مِنْ أبْنَاءِ زَمَانِنَا!
كُلَّ ذَلِكَ : تَظَلُّمًا وتَألُّمًا لِمَا تَرَكَتْهُ آثَارُ أكْثَرِ أقْلامِ كَثِيْرٍ مِنْ أهْلِ زَمَانِنا، مَعَ مَا تَقْذِفُهُ بَعْضُ الأُطْرُوْحَاتِ الجَامِعِيَّةِ مِنِ اجْتِرَارٍ وتَكْرَارٍ، فَكَانُوا مَا بَيْنَ مُحْتَرِفٍ للقَصِّ واللَّصْقِ، أو مُجْتَرِئٍ عَلَى البَتْرِ والنَّقْصِ، أو مُتَشَبِّعٍ بالتِّطْوَالِ والمِلالِ، وهَكَذا حَتَّى نَبَتَتْ بَيْنَنا مَعْلَمَةٌ مُتَعَالِمَةٌ بزَبَدٍ مِنَ المُغَالَطَاتِ، والتَّفَقُّهَاتِ الشَّاذَّةِ، وَيْكَأَنَّ القَوْمَ مُلاَّكُ التَّعَصُّبِ باسْمِ تَقْدِيْمِ الدَّلِيْلِ، أو أخْدَانُ الظَّاهِرِيَّةِ باسْمِ تَعْظِيْمِ الأثَرِ والتَّعْلِيْلِ (زَعَمُوا!).
أو غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَعْرِفُه أهْلُ الفَنِّ عِنْدَ تَعَامُلِهِم مَعَ فُنُونَِ العِلْمِ عِنْدَ تَحقِيْقِ مَسَائِلِهِ، وتَدْقِيْقِ مَبَاحِثِهِ، وتَحريْرِ تَرْجِيْحَاتِهِ، مِمَّا يَعْرِفُهُ أهْلُ العِلْمِ الرَّبَّانِيِّينَ؛ لأنَّ كَثِيْرًا مِنْ كُتُبِ المُتَأخِّرِيْنَ لا تَزِيْدُ المَسْألَةَ إلاَّ خِلافًا واخْتِلافًا، فَغَالِبُ أصْحَابِها مُغْرَمٌ بالتَّفْرِيْعَاتِ والتَّشْقِيْقَاتِ والتَّخْرِيْجَاتِ والافْتِرَاضَاتِ؛ مِمَّا قَدْ يَطُوْلُ البَحْثُ والسَّعْيُّ فِي غَيْرِ عَائِدٍ، واللهُ أعْلَمُ.
ومِنْ وَرَاءهِم طُلَّابُ تَعَالُمٍ لَيْسَ عِنْدَهُم إلَّا هَمَزَاتٌ جَهْلَاءُ: بأنْوَاعٍ مِنْ دَعَاوِي التَّثْبِيْطِ والتَّهْوِيْنِ، مَعَ مَا عِنْدَهُم مِنْ إمْلاءاتٍ ونَصَائِحَ يَحْسِبُها الظَّمْأنُ مَاءً، ومَا هِي إلاَّ سَرَابُ بَقِيْعَةٍ قَدْ ألْبَسُوْها: ثِيَابًا مِنْ زُخْرُفِ القَوْلِ، وضَعْفِ العَزِيْمَةِ، وقِلَّةِ العِلْمِ!
وهَلْ كَانَ تَصْنَيْفُ:
«جَامِعِ الأصُوْلِ» لابنِ الأثِيْرِ؛ لأهْلِ زَمَانِهِ؟، وهَلْ كِتَابُ: «مَجْمَعِ الزَّوائِدِ» للهَيثَمِيِّ؛ لطُلاَّبِ أوَانِه؟، وهَلْ كِتَابُ: «المَطَالِبِ العَلِيَّةِ»، وكِتَابِ «إتْحَافِ المَهَرَةِ» لابنِ حَجَرٍ، وكَذَا كِتَابُ «تُحْفَةِ الأشْرَافِ» للمِزِّي، هَلْ كَانَ كُلُّهُ حَبِيْسَ أقْرَانِهِ؟: كَلاَّ!
فمِثْلُ هَذِهِ الكُتُبِ وغَيْرِهَا مِنَ المَشَارِيْعِ الحَدِيْثِيَّةِ العِلْمِيَّةِ الكَبِيْرَةِ: لَمْ تَزْلْ للأمَّةِ وَدِيْعَةً وأمَانَةً؛ فِي حِيْنَ مَا زَالَتِ الأمَّةُ تَحُوْطُها بالحِفْظِ والصَّوْنِ والدُّعَاءِ … وسَتَبْقَى مَعْلَمَةً حَدِيثِيَّةً، فِي غَيْرِها مِنْ كُتُبِ الحَدِيْثِ المُطَوَّلَةِ؛ وقِيْمَةُ كُلِّ امْرِئٍ ما يُحْسِنُ
(لا مَا يُرِيْدُ!)، ومَا كَانَ للهِ بَقِيَ!
وأخِيْرً؛ أسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أنْ يَكْتُبَ لِي وللشَّيْخِ الشَّاميِّ: الإخْلاصَ فِي القَوْلِ والعَمَلِ، وأنْ يُوَفِّقَنَا لِمَا يُحِبُّه ويَرْضَاهُ، وأنْ يَرْزُقَنَا الخَاتِمَةَ الحَسَنَةَ!
والحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِيْنَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلَى عَبْدِه ورَسُوْلِه الأمِيْنِ
 

كَتبَه
ذِيَابُ بنُ سَعْدٍ آلُ حَمْدَانَ الغَامِدِيُّ
حُرِّرَ في صَبَاحِ يَوْمِ الجُمُعَةِ
المُوَافِق (25/ 3/ 1436)
الطَّائِفُ المَأنُوسُ
 
اسمك :  
نص التعليق : 
      
 
 
 

 
 
 اشتراك
 انسحاب
اشتراك
انسحاب
 المتواجدون حاليا: ( 14 )
 الزيارات الفريدة: ( 2648752)