س/ ما حكم تخليل اللحية في الوضوء، وهل أحد من أهل العلم ضعف روايات تخليل اللحية، ولاسيما أنّ بعضَ أهل العلم المعاصرين قد قال بأنها ليست من السنة؟
ج/ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين.
أما بعد، فإن مسألة تخليل اللحية من المسائل التي تنازع فيها أهل العلم قديما ومن أراد تفصيلها فلينظره في كتب الفقه المبسوطة، لذا فإننا سوف نقتصر على أطرافها بشيء من الاختصار، والله الموفق.
قلت: لاشك أن الحديث عن مسائل الفقه الخلافية يستوجب منَّا النظرَ إليها من وجهين: جهتها الحديثية، وجهتها الفقهية، وإلا وقعنا في حَيْصَ بَيْصَ.
لأن طالب العلم إذا اقتصر فيها على الدراسة الحديثية فقط، فإنه سيقع غالبا في شذوذات الظاهرية، وإن اقتصر على الدراسة الفقهية، فسيقع غالبا في جهالات المتعصبة، وكلاهما من مسالك أهل الجهالةٍ.
لأجل هذا فإنَّ كلَّ من ادَّعى دراسة المسائل الخلافية من خلال وَجهٍ دون الآخر: فإنه عريضُ الدعوى، لأننا لا نعلم أحدا سَلِمت له هذه الدعوى إلا أفرادا من أئمة السلف ممَّن انطوى بِساطُهم من قرون، والله المستعان!
وعليه، فإن مسألة تخليل اللحية في الوضوء لهي من المسائل التي ينبغي لطالب العلم أن يجمع بين صحيح حديثها وصريح فقهها، وذلك من خلال النظر إلى دلائلها من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس الصحيح أو قول الصحابي، لاسيما فيما اشتهر عنهم أو عن أحدهم وليس لهم فيها مخالف.
ثم عليه بعدئذ أن ينظر إلى مذاهب أئمة السلف في المسألة كي يستنير بفهمهم، ويستأنس بفقههم، لا أن يخرج عن جماعتهم، أو يحدث قولا ليس له فيه إمام.
وبعد، فإن مسألة تخليل اللحية الطويلة في الوضوء تعتبر واحدةً من السنن الثابتة شرعا، لأمور:
أولا: حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته" أخرجه الترمذي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم كثير.
وفي سنده عامر بن شقيق، قد ضعَّفوه، لكن بعض أئمة الحديث قد صححوا حديثه هذا: كالإمام البخاري وابن المنذر وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم.
قال الترمذي في "العلل الكبير" (٣٣): "قال محمد (البخاري) أصح شيء عندي في التخليل حديث عثمان، قلت: إنهم يتكلمون في هذا الحديث! فقال: هو عندي حسن".
وقال ابن المنذر في "الأوسط" (١/ ٢٨٥): "والأخبار التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خلل لحيته، قد تُكلِّم في أسانيدها، وأحسنها حديث عثمان".
وقال الزيلعي في "نصب الراية" (١/ ٢٣): "روي تخليل اللحية عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة… وكلها مدخولة، وأمثلها حديث عثمان".
وعليه، فمن ذهب من المعاصرين إلى تضعيف الحديث، فله سلف، لكن ليس له أن يُنكر على من ذهب إلى تصحيح الحديث، فضلا أن يشيع بين عامة المسلمين بأن تخليل اللحية ليست سنة!
بل كان واجبا عليه أن يذكر الخلاف في المسألة، ثم يقول بعدئذ: بأنه يذهب إلى قول من ضعَّف الحديث، لا أن الحديث ضعيف، فحسب!
ثانيا: لقد ثبت عن ابن عمر رضي الله عنه بسند صحيح الإسناد لا مطعن فيه بوجه من الوجوه.
وهو ما أخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر والطبري من طريق عبيد الله عن نافع عن ابن عمر: "أنه كان يخلل لحيته".
وقد ثبت عنه أيضا بسند آخر عند الطبري وابن المنذر من طريق ابن جريج قال أخبرني نافع: "أنَّ ابن عمر كان يَبُلُّ أصول شعر لحيته، ويغلغل بيده في أصول شعرها، حتى تكثر القطرات منها" وإسناده صحيح.
وصريح فعل ابن عمر هذا، يدلُّ دلالةً على أن حديث عثمان له أصلٌ، كما هي طريقة أهل الحديث والفقه معًا.
ومن خلال صحة فعل ابن عمر رضي الله عنه، ذهب جمهور أهل العلم إلى سنيَّة تخليل اللحية في الوضوء، مع اختلافهم في وجوبها، والصحيح عدم الوجوب.
أمَّا ما ثبت عن بعض الأئمة بأنه لم يثبت في تخليل اللحية حديث، فمقصودهم: عدم ثبوت حديثها مرفوعا لا موقوفا، أو عدم ثبوت أحاديثها ثبوتا يقضي بوجوب تخليلها في الوضوء.
ويدل على هذا ما ذكره أبو داود في "مسائله" (١٣) قال: "قلت لأحمد بن حنبل: تخليل اللحية؟ قال: يخللها، قد روي فيه أحاديث، وليس فيه حديث - يعني عن النبي صلى الله عليه وسلم ـ"
وأخيرا، فإنه بعد ثبوت سنية تخليل اللحية الطويلة في الوضوء ـ سواء من خلال حديث عثمان إن قيل بصحته، أو من فعل ابن عمر رضي الله عنها ـ: كان من واجب النصيحة على طلاب العلم: بأن يتريَّثوا في ذكر الأحكام على مسائل الفقه الخلافية، لاسيما المشهورة منها، ممَّا جرى عليها عمل الناس جيلا بعد جيل!
فإن كان ولا بد: فعليهم أن يذكورا خلافها أو راجحها بين طلاب العلم وخاصتهم، لاسيما في مجالس العلم، لا أن ينشروها بين عموم إخوانهم المسلمين، وذلك في الوقت الذي ظهر فيه الجهلُ وقلَّ فيه العلمُ بين عموم المسلمين!
فمن هنا كان من واجب النصيحة على طلاب العلم: أن ينشروا هذه الأيام بين عموم المسلمين مشهورات أحكام المسائل الفقهية، لا أن ينشروا أغلوطاتها وغرائبها، لأن نشر مثل هذه الأغلوطات اليوم ممَّا سيكون: مِدعاةً للشك والريب، فحذاري حذاري!
والله تعالى أعلم، وردُّ العلم إليه أسلم.
وكتبه
الشيخ الدكتور
ذياب بن سعد الغامدي.
(١٨/ ٩/ ١٤٣٦)