تحرير موقف ابن تيمية من قراءة آية الكرسي.....
عدد مرات القراءة: 721301
تَحْرِيْرُ مَوْقِفِ ابنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَه الله مِنْ قِرَاءَةِ آيَةِ الكُرْسِي دُبُرَ كُلِّ صَلاٍة!

 لَقَدِ اضْطَرَبَتْ أقْوَالُ كُثِيرٍ مِنْ طُلَّابِ العِلْمِ مِنْ أهْلِ زَمَانِنَا في تَحْرِيْرِ مَوْقِفِ ابنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَه الله في هَذِهِ المَسْألَةِ، ممَّا جَعَلَ الخِلافَ يَتَّسِعُ مَا بَيْنَ مُؤيِّدٍ ومُخَالِفٍ ومُتَوَقِّفٍ ومُرَجِّحٍ، وهَكَذَا في مَنْظُوْمَةٍ مِنَ الأقْوَالِ المُتَضَارِبَةِ، لِذَا رَأيْتُ مِنْ تَتِمَّةِ الفَائِدَةِ بَحْثَ مَوْقِفِ ابنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَه الله مِنْ قِرَاءَةِ آيَةِ الكُرْسِي دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ بِشَيءٍ مِنَ التَّحْرِيْرِ والتَّحْقِيْقِ، كَمَا أدَّاهُ اجْتِهَادِي القَاصِرُ، والله المُوَفِّقُ والهَادِي إلى سَوَاءِ السَّبِيْلِ .
وقَبْلَ الشُّرُوْعِ في بَحْثِ هَذِهِ المَسْألَةِ؛ كَانَ مِنَ المُنَاسِبِ أنْ نَذْكُرَ نَصَّ كَلامِ ابنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَه الله في هَذِهِ المَسْألَةِ، ونَذْكُرَ أيْضًا بَعْضَ مَا دَارَ حَوْلهَا مِنْ مُلابَسَاتٍ وقَرَائِنَ، كَي نَكُوْنَ على بَيِّنَةٍ مِنَ الأمْرِ، والله أعْلَمُ .
قَالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَه الله في «مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى» (22/508) في جَوَابٍ لَهُ :
عَنْ قِرَاءَةِ آيَةِ الكُرْسِي دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ في جَمَاعَةٍ، هَلْ هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ أمْ لا؟ ومَا كَانَ فِعْلُ النَّبِيِّ ﷺ في الصَّلَاةِ؟ وقَوْلُهُ : «دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ»؟
فَأجَابَ : «الحَمْدُ لله قَدْ رُوِيَ في قِرَاءَةِ آيَةِ الكُرْسِيِّ عَقِيبَ الصَّلَاةِ حَدِيثٌ لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ ولِهَذَا لَمْ يَرْوِهِ أحَدٌ مِنْ أهْلِ الكُتُبِ المُعْتَمَدِ عَلَيْهَا فَلَا يُمْكِنُ أنْ يَثْبُتَ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، ولَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ ﷺ وأصْحَابُهُ وخُلَفَاؤُهُ يَجْهَرُونَ بَعْدَ الصَّلَاةِ بِقِرَاءَةِ آيَةِ الكُرْسِيِّ ولَا غَيْرِهَا مِنَ القُرْآنِ فَجَهْرُ الإمَامِ والمَأْمُومِ بِذَلِكَ والمُدَاوِمَةُ عَلَيْهَا بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ بِلَا رَيْبٍ فَإنَّ ذَلِكَ إحْدَاثُ شِعَارٍ بِمَنْزِلَةِ أنْ يُحْدِثَ آخَرُ جَهْرَ الإمَامِ والمَأْمُومِينَ بِقِرَاءَةِ الفَاتِحَةِ دَائِمًا أوْ خَواتِيمِ البَقَرَةِ أوْ أوَّلَ الحَدِيدِ أوْ آخِرَ الحَشْرِ، أوْ بِمَنْزِلَةِ اجْتِمَاعِ الإمَامِ والمَأْمُومِ دَائِمًا عَلَى صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ عَقِيبَ الفَرِيضَةِ، ونَحْو ذَلِكَ مِمَّا لَا رَيْبَ أنَّهُ مِنَ البِدَعِ .
وأمَّا إذَا قَرَأ الإمَامُ آيَةَ الكُرْسِيِّ في نَفْسِهِ أوْ قَرَأهَا أحَدُ المَأْمُومِينَ فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ إذْ قِرَاءَتُهَا عَمَلٌ صَالِحٌ ولَيْسَ في ذَلِكَ تَغْيِيرٌ لِشَعَائِرِ الإسْلَامِ كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ وِرْدٌ مِنَ القُرْآنِ والدُّعَاءِ والذِّكْرِ عَقِيبَ الصَّلَاةِ» .

وقَالَ أيْضًا (22/516) : «وأمَّا قِرَاءَةُ آيَةِ الكُرْسِي فَقَدْ رُوِيَتْ بإسْنَادِ لا يُمْكِنُ أنْ يَثْبُتَ بِهِ سُنَّةٌ»، أيْ : بَعْدَ المَكْتُوْبَاتِ، كَما في سِيَاقِ الكَلامِ والفُتْيَا!
وجَاءَ عَنْهُ أيْضًا في «مُخْتَصَرِ الفَتَاوَى المِصْرِيَّةِ» (86) : «جَهْرُ الإمَامِ والمَأمُوْمِ بقِرَاءَةِ آيَةِ الكُرْسِي بَعْدَ الصَّلاةِ مَكْرُوْهٌ بِلا رَيْبٍ، ورُوِيَ في قِرَاءَتِها حَدِيْثٌ؛ لَكِنَّهُ ضَعِيْفٌ جِدًّا» .
ثُمَّ قَالَ : «وأمَّا إذَا قَرَأ الإمَامُ والمَأمُوْمُ آيَةَ الكُرْسِي في نَفْسِهِ فَلا بَأسَ، إذْ هِيَ عَمَلٌ صَالِحٌ» انْتَهَى .
وقَدْ جَاءَ عَنْهُ مَا يُعَارِضُ ظَاهِرَ هَذِهِ الفَتَاوِي، وهُوَ مَا ذَكَرَهُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَه الله بَلاغًا عَنْ شَيْخِهِ ابنُ تَيْمِيَّةَ؛ حَيْثُ قَالَ في «زَادِ المَعَادِ» (1/304) : «وبَلَغَنِي عَنْ شَيْخِنَا أبي العَبَّاسِ ابنِ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ الله رُوْحَهُ أنَّهُ قَالَ : مَا تَرَكْتُهَا (أيْ : قِرَاءَةَ آيةِ الكُرْسِي) عَقِيْبَ كُلِّ صَلاةٍ» انْتَهَى .
ومِنْ خِلالِ ما ذَكَرْناهُ هُنَا : يَظْهَرُ أنَّ التَّعَارُضَ ظَاهِرٌ بَيْنَ فُتْيَا ابنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَه الله المَانِعَةِ مِنْ قِرَاءَةِ آيةِ الكُرْسِي دُبُرَ الصَّلاةِ، وبَيْنَ قِرَاءتِهِ لهَا عَقِيْبَ كُلِّ صَلاةٍ!
* * *
فمِنْ هُنَا؛ ظَهَرَ تَعَارُضُ قَوْلِهِ رَحِمَه الله مَعَ فِعْلِهِ فِيْمَا يَبْدُو عِنْدَ بَادِي الرَّأي، ومِنْ هُنَا تَمهَّدَ الخِلافُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ طُلَّابِ العِلْمِ في النَّظَرِ إلى مَوْقِفِ ابنِ تَيْمِيَّةَ مِنَ قِرَاءَةِ آيةِ الكُرْسِي دُبُرَ الصَّلاةِ، والله أعْلَمُ .
إلَّا أنَّنَا؛ إذَا نَظَرْنَا بعَيْنِ التَّحْقِيْقِ في مَجْمُوْعِ كَلامِهِ رَحِمَه الله يَتَبَيَّنُ لَنَا أنَّهُ لا تَعَارُضَ فِيَما يَبْدُو، وذَلِكَ مِنْ خِلالِ سِتَّةِ أوْجُهٍ مُعْتَبرَةٍ، كَمَا يَلي :

الوَجْهُ الأوَّلُ : أنَّ تَضْعِيْفَ ابنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ الله لحَدِيْثِ قِرَاءَةِ آيةِ الكُرْسِي دُبُرَ الصَّلاةِ؛ كَانَ مِنْهُ باعْتِبَارِ النَّاحِيَةِ الحَدِيْثِيَّةِ؛ أيْ أنَّ الحَدِيْثَ لم يَثْبُتْ عِنْدَهُ بطَرِيْقٍ صَحِيْحٍ تَقُوْمُ بِهِ الحُجَّةُ، وهُوَ مَا ذَكَرَهُ ابنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ الله بقَوْلِهِ : «لم أجَدْ للمُتَقَدِّمِيْنَ تَصْحِيْحًا لتَّصْحِيْحِهِ»، والأمْرُ كَذَلِكَ .
وهَذَا مَا ذَكَرَهُ ابنُ تَيْمِيَّةَ أيْضًا بقَوْلِهِ : «قَدْ رُوِيَ في قِرَاءَةِ آيَةِ الكُرْسِيِّ عَقِيبَ الصَّلَاةِ حَدِيثٌ لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ ولِهَذَا لَمْ يَرْوِهِ أحَدٌ مِنْ أهْلِ الكُتُبِ المُعْتَمَدِ عَلَيْهَا فَلَا يُمْكِنُ أنْ يَثْبُتَ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ» .
وقَالَ أيْضًا : «وأمَّا قِرَاءَةُ آيَةِ الكُرْسِي فَقَدْ رُوِيَتْ بإسْنَادِ لا يُمْكِنُ أنْ يَثْبُتَ بِهِ سُنَّةٌ» .

الوَجْهُ الثَّاني : أمَّا مُدَاوَمَتُهُ رَحِمَهُ الله على قِرَاءَةِ آيةِ الكُرْسِي عَقِيْبَ كُلِّ صَلاةٍ؛ فَكَانَ مِنْهُ باعْتِبَارِ النَّاحِيَةِ الفِقْهِيَّةِ؛ لأنَّهُ نَظَرَ إلى الحَدِيْثِ بكَوْنِهِ جَاءَ مِنْ بَابِ فَضَائِلِ الأعْمَالِ، الأمْرُ الَّذِي يَتَسَاهَلُ فِيْهِ عَامَّةُ أهْلِ العِلْمِ .
هَذَا إذَا عَلِمْنَا أنَّ ابنَ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ الله ممَّنْ يَذْهَبُ إلى القَوْلِ بجَوَازِ العَمَلِ بالحَدِيْثِ الضَّعِيْفِ في فَضَائِلِ الأعْمَالِ كَمَا مَرَّ مَعَنَا .
وعَلَيْهِ؛ فَلا شَكَّ أنَّ حَدِيْثَ قِرَاءَةِ آيةِ الكُرْسِي دُبُرَ الصَّلاةِ يُعْتَبرُ مِنْ أحَادِيْثِ الفَضَائِلِ الَّتِي تَجْرِي فِيْهَا الشُّرُوْطُ الَّتِي ذَكَرَهَا أهْلُ العِلْمِ في جَوَازِ العَمَلِ بالحَدِيْثِ الضَّعِيْفِ في فَضَائِلِ الأعْمَالِ، وقَدْ مَرَّ مَعَنَا بَعْضُهَا، والله أعْلَمُ .
وعَلى هَذَا يُحْمَلُ بَلاغُ ابنِ القَيِّمِ رَحِمَه الله عَنْ شَيْخِهِ ابنِ تَيْمِيَّةَ : «وبَلَغَنِي عَنْ شَيْخِنَا أبي العَبَّاسِ ابنِ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ الله رُوْحَهُ أنَّهُ قَالَ : مَا تَرَكْتُهَا عَقِيْبَ كُلِّ صَلاةٍ» .

الوَجْهُ الثَّالِثُ : أنَّه رَحِمَهُ الله كَانَ يُضَعِّفُ الحَدِيْثَ في أوَّلِ أمْرِهِ، وذَلِكَ مِنْ خِلالِ حُكْمِهِ على سَنَدِ الحَدِيْثِ، ثُمَّ إنَّهُ قَدْ رَجَعَ عَنْ فَتْوَاهُ هَذِهِ، لمَّا تَبَيَّنَ لَهُ صِحَّةُ الحَدِيْثِ، ولَو مِنْ بَابِ العَمْلِ بِهِ في فَضَائِلِ الأعْمَالِ، وعلى هَذَا اسْتَقَرَّ عِنْدَهُ تَصْحِيْحُ الحَدِيْثِ في آخَرِ الأمْرِ، والله أعْلَمُ بحَقِيْقَةِ الحَالِ والمَآلِ!
وأيًّا كَانَ هَذَا الوَجْهُ؛ فَهُوَ احْتِمالٌ يَفْتَقِرُ إلى دَلِيْلٍ صَرِيْحٍ يُبَيِّنُ رُجُوْعَهُ، والله أعْلَمُ، إلَّا أنَّهُ مِنَ الاحْتِمالاتِ الَّتِي يُسْتَأنَسُ بِهَا في مِثْلِ هَذَا المُقَامِ، لا غَيْرَ!

الوَجْهُ الرَّابِعُ : أنَّ ظَاهِرَ كَلامِهِ رَحِمَهُ الله أنَّهُ يُضَعِّفُ الجَهْرَ بقِرَاءَةِ آيةِ الكُرْسِي دُبُرَ الصَّلاةِ، سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الجَهْرُ جَمَاعَةً أو فُرَادَى، وأنَّهُ لم يَقْصِدْ تَضْعِيْفَ أصْلِ الحَدِيْثِ، يُوَضِّحُهُ مَا يَلي :
أوَّلًا : أنَّ ظَاهِرَ الفُتْيَا والجَوَابِ عَنْهَا يُبَيِّنُ لَنَا المَقْصُوْدَ مِنْ تَحْقِيْقِ مَسْألَتِنَا، كَمَا هُوَ نَصُّ كَلامِهِ هُنَا؛ حَيْثُ جَاءَ السُّؤالُ : عَنْ قِرَاءَةِ آيَةِ الكُرْسِيِّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ في جَمَاعَةٍ، هَلْ هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ أمْ لا؟
وجَاءَ الجَوَابُ كَذَا : ولَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ ﷺ وأصْحَابُهُ وخُلَفَاؤُهُ يَجْهَرُونَ بَعْدَ الصَّلَاةِ بِقِرَاءَةِ آيَةِ الكُرْسِيِّ ولَا غَيْرِهَا مِنَ القُرْآنِ، فَجَهْرُ الإمَامِ والمَأْمُومِ بِذَلِكَ والمُدَاوِمَةُ عَلَيْهَا بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ بِلَا رَيْبٍ فَإنَّ ذَلِكَ إحْدَاثُ شِعَارٍ!
وقَالَ أيْضًا في جَوَابٍ لَهُ : «جَهْرُ الإمَامِ والمَأمُوْمِ بقِرَاءَةِ آيَةِ الكُرْسِي بَعْدَ الصَّلاةِ مَكْرُوْهٌ بِلا رَيْبٍ، ورُوِيَ في قِرَاءَتِها حَدِيْثٌ؛ لَكِنَّهُ ضَعِيْفٌ جِدًّا» انْتَهَى .
لِذَا نَجِدُهُ رَحِمَهُ الله يُقَرِّرُ ويُثْبِتُ قِرَاءَةَ آيَةِ الكُرْسِيِّ للمُفْرَدِ بِدُوْنَ جَهْرٍ بِهَا؛ حَيْثُ قَالَ في الفُتْيَا السَّابِقَةِ : «وأمَّا إذَا قَرَأ الإمَامُ آيَةَ الكُرْسِيِّ في نَفْسِهِ أوْ قَرَأهَا أحَدُ المَأْمُومِينَ فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ إذْ قِرَاءَتُهَا عَمَلٌ صَالِحٌ ولَيْسَ في ذَلِكَ تَغْيِيرٌ لِشَعَائِرِ الإسْلَامِ كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ وِرْدٌ مِنَ القُرْآنِ والدُّعَاءِ والذِّكْرِ عَقِيبَ الصَّلَاةِ» .
وهُوَ مَا فَعَلَه ابنُ تَيْمِيَّةَ نَفْسُهُ مِنْ قِرَاءَةِ آيَةِ الكُرْسِي دُبُرَ الصَّلاةِ، كَمَا ذَكرَهُ عَنْهُ ابنُ القَيِّمِ بِقَوْلِهِ : أنَّ شَيْخَهُ ابنَ تَيْمِيَّةَ مَا تَرَكَ قِرَاءَةَ آيةِ الكُرْسِي عَقِيْبَ كُلِّ صَلاةٍ!

الوَجْهُ الخَامِسُ : ويَزِيْدُ الأمْرَ وُضُوْحًا؛ أنَّهُ رَحِمَهُ الله قَدْ قَطَعَ بعَدَمِ رِوَايَةِ حَدِيْثِ قِرَاءَةِ آيَةِ الكُرْسِيِّ دُبُرَ الصَّلاةِ في أحَدِ الكُتُبِ المُعْتَمَدِ عَلَيْهَا!
حَيْثُ قَالَ : «ولِهَذَا لَمْ يَرْوِهِ أحَدٌ مِنْ أهْلِ الكُتُبِ المُعْتَمَدِ عَلَيْهَا»، وهَذَا يَدْفَعُنَا إلى احْتِمالَيْنِ :

الاحْتِمالُ الأوَّلُ : أنَّهُ رَحِمَهُ الله أرَادَ : أنَّ الجَهْرَ بآيَةِ الكُرْسِي عَقِبَ الصَّلاةِ لَيْسَ فِيْهِ حَدِيْثٌ ثَابِتٌ، وهُوَ كَذَلِكَ .
الاحْتَمالُ الثَّاني : أنَّهُ إذَا قَصَدَ بعَدَمِ ثُبُوْتِ قِرَاءَةِ آيَةِ الكُرْسِيِّ عَقِبَ الصَّلاةِ على وَجْهِ العُمُوْمِ، أيْ : لا سِرًّا ولا جَهْرًا، فَإنْ كَانَ الأمْرُ كَذَلِكَ كَمَا يَحْلُو لبَعْضِ طُلَّابِ العِلْمِ، فَهُوَ مَرْدُوْدٌ ومُتَعَقَّبٌ لكُوَنِ الحَدِيْثِ قَدْ وَرَدَ في بَعْضِ كُتُبِ السُّنَّةِ المُعْتَمَدَةِ سَلَفًا وخَلَفًا، وعَلَيْهِ فَقَدْ أخْرَجُوْهُ في كُتُبِهِم ورَوَوْهُ في مُصَنَّفَاتِهِم!
فَقَدْ أخْرَجَهُ النَّسَائيُّ في «السُّنَن الكُبْرَى»، وفي كِتَابِ «عَمَلِ اليَوْمِ واللَّيْلَة» لَهُ، والطَّبَرانيُّ في «المُعْجَمِ الكَبِيرِ»، وابنُ السُّنِّيِّ في «عَمَلِ اليَوْمِ واللَّيْلَة»، وهَذِهِ الكُتُبُ أحَدُ كُتُبِ السُّنَّةِ المُعْتَمَدَةِ عِنْدَ عَامَّةِ أهْلِ العِلْمِ، ولاسِيَّما عِنْدَ ابنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ الله .
لأجْلِ هَذَا الاحْتِمالِ؛ فَقَدِ اعْتَذَرَ الألْبَانيُّ رَحِمَهُ الله عَنِ ابنِ تَيْمِيَّةَ بِمَا يَلي .

الوَجْهُ السَّادِسُ : وهُوَ مَا ذَكَرَهُ الألْبَانيُّ عَنْ تَعَارُضِ ابنِ تَيْمِيَّةَ في مَوْقِفِهِ مِنْ حَدِيْثِ قِرَاءَةِ آيَةِ الكُرْسِي دُبُرَ الصَّلاةِ؛ حَيْثُ قَالَ في «السِّلْسِلَةِ الصَّحِيْحَةِ» (2/664) : «ويَبْدُو أنَّ هَذَا كَانَ مِنْهُ (أيْ ابنَ تَيْمِيَّةَ) في أوَّلِ طَلَبِهِ، فَقَدْ ذَكَرَ تَلْمِيْذُهُ ابنُ القَيِّمِ في «الزَّادِ» عَنْهُ أنَّه قَالَ : «مَا تَرَكْتُهَا عَقِبَ كُلِّ صَلاةٍ» انْتَهَى .
ومِنْ خِلالِ هَذِهِ الأوْجُهِ يَسْتَقِيْمُ الاعْتِذَارُ لابنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ الله في تَضَارُبِ أقْوَالِهِ وأفْعَالِهِ تُجَاهَ حَدِيْثِ قِرَاءَةِ آيَةِ الكُرْسِي دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ، كَمَا فِيْهَا أيْضًا جَمْعٌ لمَجْمُوْعِ أقْوَالِهِ وفَتَاوِيْهِ المُتَعَارِضَةِ بطَرِيْقٍ أو آخَرَ، والله تَعَالى أعْلَمُ .

ومَهْمَا يَكُنْ مِنْ خِلافٍ؛ فَقَدْ صَحَّ الحَدِيْثُ سَنَدًا ومَتْنًا ولله الحَمْدُ والمِنَّةُ، كَمَا قَدْ صَحَّحَهُ أئِمَّةٌ أعْلامٌ ومُحَدِّثُوْنَ كِبَارٌ، والحَالَةُ هَذِهِ لا يَجُوْزُ لأحَدٍ مِنْ طُلَّابِ العِلْمِ أنْ يُعَارِضَ بهَذِهِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ الثَّابِتَةِ بقَوْلِ أحَدٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ، والله وَليُّ الصَّالحِيْنَ .

الشيخ الدكتور
ذياب بن سعد الغامدي
"تحقيق الكلام في أذكار
الصلاة بعد السلام"
ص 126
 
اسمك :  
نص التعليق : 
      
 
 
 

 
 
 اشتراك
 انسحاب
اشتراك
انسحاب
 المتواجدون حاليا: ( 38 )
 الزيارات الفريدة: ( 2648970)