موقف ابن تيمية من الجهر بالنية في الصلاة
عدد مرات القراءة: 99788
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على عَبْدِهِ ورَسُولِهِ الأمِيْنِ.

أمَّا بَعْدُ؛ فَاعْلَمْ رَحِمَكَ اللهُ: أنَّ مَسْألَةَ «التَّلَفُّظِ بالنِّيَّةِ في الصَّلَاةِ» مِنَ المَسَائِلِ الخِلافِيَّةِ الَّتِي امْتَدَّ بِسَاطُهَا عِنْدَ الفُقَهَاءِ - قَدِيْمًا وحَدِيْثًا -: مَا بَيْنَ مُبِيْحٍ لَهَا في الجُمْلَةِ وبَيْنَ مَانِعٍ لَهَا شَرْعًا وعَقْلًا، كَمَا سَيَأتي ذِكْرُهُ.

أمَّا مَسْألَةُ «الجَهْرِ بالنِّيَّةِ»: فَلَيْسَتْ من مَسَائِلِ الخِلافِ في شَيْءٍ، بل لم يظهر ذِكْرُهَا والكَلامُ عَنْهَا إلَّا عِنْدَ بعض المتأخرين من أصحاب المذاهب الفقهية وغيرهم، فكانت من محدثات الأمور وبدع الأقوال الَّتِي أجمع أهْلُ العِلْمِ على تحريمها والتحذير منها قولا وفعلا!

ومع هَذَا؛ فقد نبتت نابتَةٌ جَهْلَاءُ، فكان من واردات سوء أعمالهم: أنهم لا يَكِلُّونَ ولا يَسْأمُونَ من النيل من مقامات أهل الإسلام الكبار؛ لَا سِيَّمَا شَيْخِ الإسْلامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ؛ حيث أجمعوا أمرهم على النيل منه واتهامه بكل نقيصة وبهتان، مع ألسنة حداد في كل مَا يأتون ويذرون، فَمَرَّةً يتهمونه بما ليس فيه، ومَرَّةً يلمزونه بشائن الأقوال، ومَرَّةً يَتَقَوَّلُونَ عليه بما لم يقل، في غير ذَلِكَ من دسائس القلوب وسلاطة الألسن، ﴿واللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ [البقرة:95].

فكان من تلكم القالات الَّتِي لم يزل يتناقلها أهْلُ الأهْوَاءِ والبِدَعِ في كتاباتهم ومباحث مصنفاتهم ومسامرة مجالسهم: أنَّ ابنَ تَيْمِيَّةَ يُكَفِّرُ مَنْ يَجْهَرُ بالنِّيَّةِ في الصَّلَاةِ بإطْلاقٍ!

وحَاشَاهُ رَحِمَهُ اللهُ! أن يقول ذَلِكَ؛ بل لم ينص في شيء من كتبه على تكفير المجاهر بالنية لا من قريب ولا من بعيد، بل رَحِمَهُ اللهُ كان من أشد المنكرين على من يكفر المسلمين دون بينة ولا حجة ظاهرة، وله في هَذَا كتب وفتاوٍ لا تُعَدُّ ولَا تُحْصَى، كما هُوَ معلوم للجميع.

فكان الحامل لهم على هَذَا الاتهام: أنهم وَجَدُوا فُتْيَا لابنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ ظَنَّوْهَا تدل على ظاهر دعواهم، غير أنهم لم يأخذوا بكل مَا جاء فيها، - دون زيادةٍ منهم ولا نقصان -؛ بل آمنوا ببعضها وكفروا ببعضٍ؛ حيث وقفوا على طرف منها مِمَّا ظَنَّوْهُ يشفي صُدُورَهُم ويُغْرِي أتْبَاعَهُم، وبقَدْرِ مَا اختلسوه من هَذِهِ الفتيا ظنوا أنهم قد وجودا فيها مَا يدل على خطإ ابنِ تَيْمِيَّةَ وضلاله: وهُوَ دعواهم بأنَّ ابنَ تَيْمِيَّةَ يُكَفِّرُ المخالفين في المَسَائِلِ الخِلافِيَّةِ؛ لَا سِيَّما مَنْ يَجْهَرُ بالنِّيَّةِ في الصَّلَاةِ -زعموا! -.

وهَذَا الفِرْيَةُ ظَهَرَتْ لَدَيْهِم اعْتِمَادًا مِنْهُم على قَوْلِ ابنِ تَيْمِيَّةَ في قَوْلِهِ: «الجَهْرُ بِلَفْظِ النِّيَّةِ: لَيْسَ مَشْرُوعًا عِنْدَ أحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ المُسْلِمِينَ، ولَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، ولَا فَعَلَهُ أحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ، وأصْحَابِهِ، وسَلَفِ الأُمَّةِ وأئِمَّتِهَا، ومَنِ ادَّعَى أنَّ ذَلِكَ دِينُ اللَّهِ، وأنَّهُ وَاجِبٌ: فَإنَّهُ يَجِبُ تَعْرِيفُهُ الشَّرِيعَةَ، واسْتِتَابَتُهُ مِنْ هَذَا القَوْلِ، فَإنْ أصَرَّ على ذَلِكَ: قُتِلَ»، كَمَا سَيَأتي نَصُّهَا كَامِلًا مَعَ بَيَانِهِ وتَفْسِيْرِهِ كَمَا أرَادَهُ ابنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ.

لكن يأبى الله إلا أن ينصر دينه ويعز أولياءه، ويظهر الحق ويزهق الباطل - ولو بعد حين -، وحسبك بابنِ تَيْمِيَّةَ وَلِيًّا من أولياء الله - والله حسيبه - وأنَّهُ من أئمة الإسلام الذين لم تزل أقوالهم منصورة وكتبهم منشورة على رَغْمِ مدافعة أهل الباطل لها - منذ نبغ إلى وقتنا هَذَا -، ﴿والعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ﴾ [الأعراف:128].

ولَنَا فِيْمَا ادَّعَوْهُ وذَكَرُوهُ - ظُلْمًا وزُوْرًا - في حَقِّ ابنِ تَيْمِيَّةَ وَقَفَاتٌ مُهِمَّاتٌ، كَمَا يَلِي:

الوَقْفَةُ الأُوْلَى: التَّفْرِيْقُ بَيْنَ مَسْألَةِ التَّلَفُّظِ بالنِّيَّةِ في الصَّلَاةِ وبَيْنَ الجَهْرِ بِهَا.

فالتَّلَفُّظُ بالنِّيَّةِ: هُوَ التَّلَفُّظُ بِهَا سِرًّا؛ بحيث تُحَرَّكُ الشفتان بها دون صوت لها.

ومثاله - مَا يقوله بعضهم قبل تكبيرة الإحرام -: نويتُ صلاةَ العصر أربعًا فَرِيْضَةً مأمومًا بها خلفَ الإمام الفلاني، وفي المسجد الفلاني، وغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ من وَسَاوِسِ الشيطان.

وهم مع هَذِهِ الألفاظ البدعية مَا بَيْنَ مستقل ببعض كلمات التَّلَفُّظِ وبَيْنَ مستكثر منها.

أمَّا الجهر بالنية: فهُوَ التَّلَفُّظُ بِهَا بصوت مسموع؛ سواء أسمع نَفْسَهُ أو مَنْ بجانبه.

فمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ التَّلَفُّظِ بالنية والجهر بها: فقد وَقَعَ في حَيْصَ بَيْصَ!

وعامة فقهاء الإسلام عِنْدَ كلامهم عن مَسْألَةِ النية: نراهم يفرقون بَيْنَ التَّلَفُّظِ بها سِرًّا وبَيْنَ الجهر بها.

وعلى هَذَا التفريق مَضَتْ سُنَّةُ أهْلِ الفِقْهِ والحديث والتفسير وغيرهم.

الوَقْفَةُ الثَّانِيَةُ: التَّفْرِيْقُ بَيْنَ من أصَرَّ على التَّلَفُّظِ بالنية وبَيْنَ مَنْ شرعها وأوجبها في دين الإسلام.

فالأوَّلُ: مُبْتَدِعٌ عَاصٍ، يَجِبُ تَأدِيْبُهُ وعُقُوبَتُهُ بالحَبْسِ ونَحْوِهِ.

والثَّاني: مُشَرِّعٌ، يَجِبُ قَتْلُهُ تَعْزِيْرًا أو رِدَّةً، بِحَسَبِ مَا يُقَرِّرُهُ أهْلُ العِلْمِ.

لأن المبتدع - في الجملة - عنده شبهة وتأويل؛ بخلاف المشرع الَّذِي شارك الله تعالى في أمره وحكمه، كما سيأتي بيانه.

وبهذا التفريق: اتفق عامة أهل العلم، وهَذَا مَا قَرَّرَهُ ابنُ تَيْمِيَّةَ نَفْسُهُ في غير موضوع من كتبه وفتاواه؛ حَيْثُ قَالَ في «الفَتَاوَى الكُبْرَى» (1/495): «وقَدِ اتَّفَقَ الأئِمَّةُ على أنَّ الجَهْرَ بِالنِّيَّةِ وتَكْرِيرَهَا لَيْسَ بِمَشْرُوعِ، بَلْ مَنْ اعْتَادَ ذَلِكَ: فَإنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أنْ يُؤَدَّبَ تَأْدِيبًا يَمْنَعُهُ عَنْ ذَلِكَ التَّعَبُّدِ بِالبِدَعِ، وإيذَاءِ النَّاسِ بِرَفْعِ صَوْتِهِ». وانْظُرْ أيْضًا: «مَجْمُوعَ الفَتَاوى» (22/232).

الوَقْفَةُ الثَّالِثَةُ: التَّفْرِيْقُ بَيْنَ المَعْصِيَةِ والبِدْعَةِ والتَّشْرِيْعِ!

فالمعصية: هِيَ مَا يَفْعَلُهَا المُسْلِمُ مُقِرًّا بأنها مخالفةٌ لأمر الله، وهَذَا الصِّنْفُ مِنَ المُسْلِمِيْنَ مِمَّنْ يرجون التوبة من الذنوب - صَغِيْرِهَا وكَبِيْرِهَا -، مع طلبِهم لرحمة الله تعالى ومغفرته، كما جرى عليه عامة المذنبين من المسلمين.

وأمَّا البدعةُ: فَهِيَ مَا يُحْدِثُهَا المُسْلِمُ ظَنًّا منه أنها من الدين؛ سواء كان هَذَا الظَّنُّ منه بطريق التحسين لها، أو بطريق تأويل بعض النصوص الشرعية الَّتِي يظنها دليلا عليها، وهَذَا الصِّنْفُ مِنَ المُسْلِمِيْنَ - للأسف! - لا يرجون التوبة من البدعة لظنهم أنها من الدين - زعموا! -.

علما؛ أن الكلام عن البدعة من حيث تعريفها وضوابطها، وأنواعها وأحكامها، والفَرْقِ بَيْنَ المُكَفِّرِ مِنْهَا ومَا دُوْنَهُ، وغير ذلك مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ، الشيء الَّذِي لا يتسع له هَذَا المقالُ.

وأمَّا التشريع: فَهُوَ مَا يفعله الإنسان مُضَاهَاةً مِنْهُ لشرع الله تعالى - لا تأويلا منه ولا اجتهادا -، كما يفعله المشركون والطواغيت وغيرهم مِمَّنْ صدر نفسه مشرعا للناس؛ لَا سِيَّمَا إذَا دعاهم إلى مَا شرعه هو؛ فضلا أن يوجبه عليهم، وهَذَا الصِّنْفُ أصحابه كفار بإجماع أهل العلم، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى:21].

الوَقْفَةُ الرَّابِعَةُ: أنَّ ابنَ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ لَمْ يَنْفَرِدْ بهَذِهِ الفُتْيَا في حُكْمِهِ على مَنْ جَهَرَ بالنِّيَّةِ في الصَّلاةِ، بَلْ وَافَقَهُ عَلَيْهَا أئِمَّةٌ كِبَارٌ قَدْ عَاصَرُوهُ، وهُمْ مِنْ أصْحَابِ المَذَاهِبِ الفِقْهِيَّةِ، كَمَا سَيَأتي ذِكْرُهُم.

الوَقْفَةُ الخَامِسَةُ: التَّفْرِيْقُ بَيْنَ مَنْ يُقْتَلُ حَدًّا أو تَعْزِيْرًا وبَيْنَ مَنْ يُقْتَلُ كُفْرًا أو رِدَّةً.

فقَتْلُ المُسْلِمِ حَدًّا: هُوَ قَتْلٌ بسيفِ الشرع حكما وتقديرا؛ باعتبار مُقَدَّرَاتٍ شرعيةٍ، كما هُوَ منصوص عليها في كتب الفقه ضمن أبواب الحدود والجنايات.

وقَتْلُهُ تَعْزِيْرًا: فَهُوَ قَتْلٌ اجْتِهَادِيٌّ يُقَدِّرُهُ وَلِيُّ الأمر بحجة كَفِّ شره عَنِ المُسْلِمِيْنَ؛ لَا سِيَّمَا إذَا عَظُمَ فَسَادُهُ وتَعَدَّى شَرُّهُ على الإسْلامِ المُسْلِمِيْنَ، ونحو ذلك.

أمَّا قَتْلُهُ رِدَّةً: فَهُوَ قتل المسلم باعتبار اسْتِحْلالِ أو إنْكَارِ شَيْءٍ معلومٍ بالضرورة من الدين، ونحو ذَلِكَ.

أمَّا قتله كُفْرًا: فَهُوَ قتل الكافر الأصلي باعتبارات كثيرة.

وقَدْ يُعَبِّرُ بعضُ الفقهاء عن الكافر بالمرتد وتَارَةً بالعكس؛ لأن المعنى عندهم وَاحِدٌ، باعتبار أنَّ المرتد كافر، فكل مرتد كافر ولا عكس؛ لذا نجدهم مَرَّةً يَنُصُّونَ على كفره، ومَرَّةً على رِدَّتِهِ، وكُلُّهُ سَائِغٌ شَرْعًا واصْطِلاحًا.

وعليه؛ فليس كل من حَكَمَ عليه الفقهاء بالقتل يكون كافرًا؛ فمن لم يفرق بين هَذَا وذاك فقد خلط بين حقيقة المسلم والكافر.

فعندئذ يظهر لنا من خلال الفُتْيَا السَّابِقَةِ لابنِ تَيْمِيَّةَ: أنَّ حُكْمَهُ بالقَتْلِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الحُكْمُ بالكُفْرِ، فَهَذَا شَيْءٌ وذَاكَ شَيْءٌ آخَرُ، كَمَا سَيَأتي بَيَانُهُ.

الوَقْفَةُ السَّادِسَةُ: وهَذِهِ من أهم الوقفات وأعظمها؛ بل إخَالُهَا نَصِيْحَةً إيْمَانِيَّةً لأئمة المسلمين وعامتهم، وهِيَ كما يلي:

أنَّ كُلَّ خِلافٍ يُنَصَّبُ مَعَ شَيْخِ الإسْلَامِ ابنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ؛ سواء كان قوليا أو عمليا، فإنه ينبغي على المسلم أن ينظر إلَيْهِ من خلال أمرين:

الأمْرُ الأوَّلُ: إنْ كَانَ هَذَا الخِلافُ جَارٍ في المَسَائِلِ الفَرْعِيَّةِ الَّتِي يَسُوغُ فِيْهَا الخِلافُ؛ سواء كانت علميةً أو عمليةً، فلا تَثْرِيْبَ - والحالة هَذِهِ - على المخالف فيها؛ سواء وافق فيها ابنَ تَيْمِيَّةَ أو خالفه؛ لكونها من المسائل الَّتِي يجوز فيها الخلاف باعتبار مسلك أدلتها أو مسالك الاستدلال بها، فمَثَلُهَا مَثَلُ غَيْرِهَا من الخلافات المعتبرة الَّتِي وَقعت بَيْنَ أئمة الإسلام قَدِيْمًا وحَدِيْثًا.

وعليه؛ فإنه يَحْرُمُ على طالب العلم أن يجعل هَذَا الخلافَ المعتبرَ حجةً له في التعدي والظلم والبغي؛ فضلا عن إطلاقه للتفسيق والتبديع؛ فإن هَذَا من علامات أهْلِ الأهْوَاءِ والبِدَعِ، كما أنه أصبح اليوم - للأسف! - سِمَةً لبعض أدعياء السلفية مِمَّنْ تَلَوَّثَتْ ألْسِنَتُهُم بالقذع والتجريح لإخوانهم من أهل الدعوة والإيمان، فالله المستعان!

الأمْرُ الثاني: إنْ كَانَ الخِلافُ مَعَ ابنِ تَيْمِيَّةَ في أُصُولِ الدِّيْنِ مِمَّا لا يَسُوغُ فِيْهِ الخِلافُ: فهنا كان على طالب العلم أن يعلم أنَّ هَذَا الخلافَ المَزْعُومَ لم يكن بابُهُ البَحْثَ والمناظرةَ وتحقيقَ الصَّوابِ مِنَ الخَطَإ مِمَّا هُوَ جارٍ بَيْنَ أهْلِ السُّنَّةِ في مصنفاتهم مع أهْلِ البِدَعِ، بل هُوَ مِمَّا كسبته أيدي أهل الباطل للطعن على ابنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ كي يَلْبِسُوا بِهِ الحقَّ بالباطل، ويَنْقُضُوا به عقائدَ أهْلِ السُّنَّةِ، ويقرروا عنده عقائدَ أهْلِ الأهْوَاءِ والبِدَعِ؛ فليحذرْ طالبُ العلم أن يلج هَذَا الباب بدعوى البحثِ والنظرِ، وبحُجَّةِ تحريرِ الصَّوابِ مِنَ الخَطَإ!

ثم اعلم أنَّ غالب المخالفين مع ابنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ في المنهج والعقيدة: هم من عساكر أهل الباطل.

وآيةُ ذَلِكَ: أننا لا نعرف أحدا ناصب العداء لشَيْخِ الإسْلامِ ابنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ إلَّا كان مُتَسَرْبِلًا بأثْوابِ أئِمَّةِ أهل الملل والنحل، أو الفرق والمذاهب الباطلة: كأحبار اليهود، وقساوسة النصارى، وأئمة الجهمية والمعتزلة والأشعرية والصوفية، وزنادقة الباطنية، ورؤوس الشيعة والقبورين وأهل وَحْدَةِ الوُجُودِ، وأذنابهم من فروخ المعتزلة والعلمانيين، وغيرهم من دعاة الضلالة والإلحاد والشرك والفساد.

فكل هؤلاء قد أجمعوا - أمرهم قَدِيْمًا وحَدِيْثًا - على رَمْيِ ابنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ بقَوْسٍ وَاحِدَةٍ لا تخرج سهامهم عن كونها نِبَالَ ضَلَالٍ وإفْسَادٍ، ﴿فَأيُّ الفَرِيقَيْنِ أحَقُّ بِالأمْنِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام:81].

ثم إنَّنِي منذ ثلاثين سنة وأنا لم أكف نظري عن قراءة مَا يدعيه أكْثَرُ أهْلِ الأهْوَاءِ والبِدَعِ من خلافات عقدية واتهامات منهجية مع شَيْخِ الإسْلامِ ابنِ تَيْمِيَّةَ: فلم أجد للقوم مسلكا علميا، ولا ممسكا يعتمد عليه، ولا تحريا منهم للحق والصواب؛ بل وجدت غالب أصحاب هَذِهِ الخِلافَاتِ المُخْتَلَقَةِ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ قِسْمَيْنِ:

القِسْمُ الأوَّلُ: أصْحَابُ دَعَاوَىَ عِلْمِيَّةٍ لَا يَدْعَمُهَا دَلِيْلٌ نَقْلِيٌّ ولَا عَقْلِيٌّ، بل سبيلها الدعاوى والتأويلات الفاسدة، أو الأقيسة الباطلة، أو الأحاديث الضعيفة والموضوعة، أو غير ذَلِكَ من الأطاريح العلمية المخالفة للمنهج العلمي عِنْدَ التحقيقِ والبحثِ، والمخالفة عِنْدَ المناظرة والجدل.

القِسْمُ الثَّاني: أصْحَابُ اتِّهَمَاتٍ كَاذِبَةٍ، وألْسِنَةٍ بَذِيْئَةٍ لا يحسنها إلا أهْلُ الفُجُورِ والطَّغَامُ، ولولا خشيةُ الإطالة لذكرت لكل قسم منهم أمثلةً كثيرةً مَا يعرفه أكثر الناس!

فشيء هَذَا خبره، وهَذَا مسلكه: فإياك يا طالب العلم أن تغتر بخلاف ينشره أهْلُ الأهْوَاءِ والبِدَعِ مع ابنِ تَيْمِيَّةَ، فكل خلاف ينصبه القوم فَهُوَ في حقيقته كذب وزور وبهتان، فالقوم لا يريدون بذكر هَذِهِ الخلافات المشبوهة إلا هدم حصون عقائد أهْلِ السُّنَّةِ، كي يبنوا على أنقاضها عقائدهم الفاسدة، ﴿إنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [يونس:81].

ومن خلال مَا ذكرناه هنا؛ فإن كُلَّ خلاف يذكره أهْلُ الأهْوَاءِ والبِدَعِ مع ابنِ تَيْمِيَّةَ: فَهُوَ خلافٌ مردودٌ ومقصدٌ منبوذٌ لا يجوز لطالب العلم ذكره؛ فضلا عن نشره بَيْنَ عموم المسلمين بدعوى بحثه العلمي وبيان صوابه من خطئه؛ إلا في مقام الرد والمجادلة والمناظرة مع المخالفين من أهْلِ البَاطِلِ.

وعليه؛ فإنَّ دعواهم: أنَّ شَيْخَ الإسْلامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ يُكَفِّرُ المجاهرَ بالنية في الصلاة، لهو من الادعاءات الكاذبة والتقولات المكشوفة؛ لعلمنا أنَّ ابنَ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ مِنْ أبْعَدِ النَّاسِ وأشَدِّهِمْ تَحْذِيرًا: مِنْ إطلاق التفسيق والتبديع والتكفير لكل مسلم، إلا بشروط وموانعَ، قَدْ بَسَطَ هُوَ ذِكْرَهَا في مجموع كُتُبِهِ وفَتَاوَاهُ.

بل أشَدُّ تحذيراتِ ابنِ تَيْمِيَّةَ وأشهرُهَا نكيرًا: هُوَ إنكارُهُ على من يطلق هَذِهِ الأسماء والأحكام على المخالف في المَسَائِلِ الخِلافِيَّةِ الَّتِي يسوغ فيها الاجتهاد: كمسائل الفقه ونحوها؛ لَا سِيَّمَا في «مسألة التَّلَفُّظِ بالنِّيَّةِ في الصَّلَاةِ»، فَتَأمَّلْ!

لأجْلِ هَذَا؛ كان واجبا على كل مسلم أن يَحْمِلَ متشابهات كلام أهل العلم على مُحْكَمَاتِهِ؛ لَا سِيَّمَا في هَذِهِ الفتيا الَّتِي طار بها أهْلُ البَاطِلِ؛ هَذَا إذَا عَلِمَ الجَمِيْعُ أنَّ ابنَ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ قد نَصَّ في غير موضع من كتبه وفتاواه على عدم إطلاق التكفير في المسائل الخلافية: كالتَّلَفُّظِ بالنِّيَّةِ ونَحْوِهَا.

لذا كان الأخذ بطرفٍ من هَذِهِ الفُتْيَا والتَّمَسُّكُ ببعضِ أحرفها دون مَا سواه؛ يُعَدُّ قَوْلًا مَرْذُولًا لَا يَطْرُقُهُ إلَّا مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ مَرَضٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران:7].

* * *

قُلْتُ: لَا شَكَّ أنَّ النِّيَّةَ في العِبَادَاتِ تَخْتَلِفُ باخْتِلافِ صُوَرِهَا ومَقَاصِدِهَا، فَهِيَ بِهَذَهِ الاعْتِبَارَاتِ تَنْقَسِمُ إلى أرْبَعِ صُوَرٍ، كَمَا يَلِي باخْتِصَارٍ:

الصُّوْرَةُ الأُوْلَى: أنَّ النِّيَّةَ مَحَلُّهَا القَلْبُ، وهَذِهِ الصُّوْرَةُ مَشْرُوعَةٌ بالإجْمَاعِ.

قَالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ في «الفَتَاوَى الكُبْرَى» (1/495): «نِيَّةُ الطَّهَارَةِ مِنْ وُضُوءٍ، أوْ غُسْلٍ، أوْ تَيَمُّمٍ، والصَّلَاةِ، والصِّيَامِ، والحَجِّ، والزَّكَاةِ، والكَفَّارَاتِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ العِبَادَاتِ لَا تَفْتَقِرُ إلى نُطْقِ اللِّسَانِ، بِاتِّفَاقِ أئِمَّةِ الإسْلَامِ، بَلْ النِّيَّةُ مَحَلُّهَا القَلْبُ دُونَ اللِّسَانِ، بِاتِّفَاقِهِمْ، فَلَوْ لَفَظَ بِلِسَانِهِ غَلَطًا بِخِلَافِ مَا نَوَى في قَلْبِهِ كَانَ الِاعْتِبَارُ بِمَا نَوَى، لَا بِمَا لَفَظَ، ولَمْ يَذْكُرْ أحَدٌ في ذَلِكَ خِلَافًا إلَّا أنَّ بَعْضَ مُتَأخِّرِي أصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ خَرَّجَ وَجْهًا في ذَلِكَ وغَلَّطَهُ فِيهِ أئِمَّةُ أصْحَابِهِ».

الصُّوْرَةُ الثَّانِيَةُ: التَّلَفُّظُ بِهَا سِرًّا - لَا جَهْرًا -، وهَذِهِ بِدْعَةٌ بالاتِّفَاقِ.

قَالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ في «الفَتَاوَى الكُبْرَى» (2/447): «وقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أصْحَابِ مَالِكٍ وأحْمَدَ وغَيْرِهِمْ: بَلْ لَا يُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ بِالنِّيَّةِ، لَا سِرًّا ولَا جَهْرًا، كَمَا لَا يَجِبُ بِاتِّفَاقِ الأئِمَّةِ؛ لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ وأصْحَابَهُ لَمْ يَكُونُوا يَتَلَفَّظُونَ بِالنِّيَّةِ لَا سِرًّا ولَا جَهْرًا، وهَذَا القَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ».

وقَالَ أيْضًا في «مَجْمُوعِ الفَتَاوَى» (22/235): «وبِالجُمْلَةِ: فَلَا بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ في القَلْبِ بِلَا نِزَاعٍ، وأمَّا التَّلَفُّظُ بِهَا سِرًّا: فَهَلْ يُكْرَهُ أوْ يُسْتَحَبُّ؟ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ المُتَأخِّرِينَ».

الصُّوْرَةُ الثَّالِثَةُ: التَّلَفُّظُ بِهَا جَهْرًا، وهَذِهِ بِدْعَةٌ بالإجْمَاعِ.

قَالَ ابنُ الحَاجِّ المَالِكِي رَحِمَهُ اللهُ في «المَدْخَلِ» (2/275): «ومَا تَقَدَّمَ مِنْ أنَّ النِّيَّةَ لَا يُجْهَرُ بِهَا: فَهُوَ عَامٌّ في الإمَامِ والمَأمُومِ والفَذِّ.

فَالجَهْرُ بِهَا بِدْعَةٌ على كُلِّ حَالٍ؛ إذْ إنَّهُ لَمْ يُرْوَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ ولَا الخُلَفَاءَ ولَا الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ - جَهَرُوا بِهَا، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أنْ يَكُونَ الجَهْرُ بِهَا بِدْعَةٌ!

ويَنْبَغِي لَهُ أنْ يَنْهَى المَأْمُومِينَ عَمَّا أحْدَثُوهُ مِنْ قِرَاءَتِهِمْ بِالجَهْرِ بِـ«إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نَسْتَعِينُ»؛ حِينَ قِرَاءَةِ الإمَامِ إيَّاهَا؛ فَيُحَذِّرُ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ فَإنَّهُ بِدْعَةٌ».

قَالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ في «مَجْمُوعِ الفَتَاوَى» (22/218): «والجَهْرُ بِالنِّيَّةِ: لَا يَجِبُ ولَا يُسْتَحَبُّ بِاتِّفَاقِ المُسْلِمِينَ، ولَا تَبْطُلُ صَلَاةُ مَنْ لَمْ يَجْهَرْ بِهَا عِنْدَ أحَدٍ مِنَ المُسْلِمِينَ؛ بَلِ الجَاهِرُ بِالنِّيَّةِ مُبْتَدِعٌ مُخَالِفٌ لِلشَّرِيعَةِ.

وإذَا فَعَلَ ذَلِكَ مُعْتَقِدًا أنَّهُ مِنَ الشَّرْعِ: فَهُوَ جَاهِلٌ ضَالٌّ يَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ، وإلَّا العُقُوبَةَ على ذَلِكَ إذَا أصَرَّ على ذَلِكَ بَعْدَ تَعْرِيفِهِ والبَيَانِ لَهُ؛ لَا سِيَّمَا إذَا آذَى مَنْ إلى جَانِبِهِ بِرَفْعِ صَوْتِهِ أوْ كَرَّرَ ذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَإنَّهُ يَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ البَلِيغَ على ذَلِكَ».

وقَالَ في «مَجْمُوعِ الفَتَاوى» (22/246): «بَلْ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ على أنَّهُ لَا يَشْرَعُ الجَهْرُ بِالنِّيَّةِ، ومَنْ جَهَرَ بِالنِّيَّةِ: فَهُوَ مُخْطِئٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ بِاتِّفَاقِ أئِمَّةِ الدِّينِ».

وقَالَ أيْضًا (22/242): «واتَّفَقُوا على أنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ الجَهْرُ بِالنِّيَّةِ، ولَا تَكْرِيرُ التَّكَلُّمِ بِهَا؛ بَلْ ذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الأئِمَّةِ.

ولَوْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالنِّيَّةِ: صَحَّتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ الأئِمَّةِ الأرْبَعَةِ وغَيْرِهِمْ، ولَمْ يُخَالِفْ إلَّا بَعْضُ شُذُوذِ المُتَأخِّرِينَ».

الصُّوْرَةُ الرَّابِعَةُ: اعْتِقَادُ وُجُوبِ مَشْرُوعِيَّةِ الجَهْرِ بالنِّيَّةِ في العِبَادَاتِ؛ لَا سِيَّمَا في الصَّلاةِ!

وهَذِهِ بِدْعَةٌ وضَلالٌ بالإجْمَاعِ؛ وصَاحِبُهَا يُسْتَتَابُ مِنِ اعْتِقَادِهِ الضَّالِ وإلَّا على وَلِيِّ الأمْرِ قَتْلُهُ؛ لكَوْنِهِ شَرَعَ في الدِّيْنِ مَا لَمْ يَأذَنْ بِهِ اللهُ، وأوْجَبَ على المُسْلِمِيْنَ مَا لَمْ يَأمُرْ بِهِ اللهُ تَعَالَى!

وللمُشَرِّعِ في الدِّيْنِ حَالَتَاَنِ:

الحَالَةُ الأُوْلَى: مَنْ شَرَّعَ في الدِّيْنِ مِنْ خِلالِ شُبْهَةٍ أو تَأوِيْلٍ: فَهَذَا يُسْتَتَابُ وإلَّا قُتِلَ تَعْزِيْرًا.

الحَالَةُ الثَّانِيَةُ: مَنْ شَرَّعَ في الدِّيْنِ بغَيْرِ شُبْهَةٍ أو تَأوِيْلٍ: فَهَذَا يُسْتَتَابُ وإلَّا قُتِلَ رِدَّةً، وهَذَا أو ذَاكَ فَمَرْجُعُهُ إلى تَقْدِيْرِ أهْلِ العِلْمِ الَّذِيْنَ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ حَقِيْقَةِ دَعْوَى شُبْهَةِ هَذَا مِنْ جُرأةِ هَذَا، وهَذَا مَا ذَكَرَهُ ابنُ تَيْمِيَّةَ في الفُتْيَا الَّتِي طَارَ بِهَا المُغْرِضُونَ والجَهَلَةُ المُقَلِّدُونَ، فاللهُ المُسْتَعَانُ!

وقَدْ قَالَ الإمَامُ الشَّافِعِي رَحِمَهُ اللهُ: «مَنِ اسْتَحْسَنَ فَقَدْ شَرَّعَ»، وقَالَ أيْضًا: «إنَّمَا الاسْتِحْسَانُ تَلَذُّذٌ»، وقَالَ: «أنَّ حَرَامًا على أحَدٍ أنْ يَقُولَ بِالاسْتِحْسَانِ إذَا خَالَفَ الاسْتَحْسَانُ الخَبرَ». انْظُرْ: «الرِّسَالَةَ» (504، 507).

* * *

أمَّا الفُتْيَا الَّتِي أجَابَ عَنْهَا شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ: فَهِيَ فُتْيَا مُحَرَّرَةٌ عَنْ سُؤالٍ قَدْ جَمَعَ صَاحِبُهُ فِيْهِ بَوَائِقَ وطَامَّاتٍ: مَا بَيْنَ تَشْرِيْعَاتٍ واعْتِقَادَاتٍ فَاسِدَةٍ، وبَيْنَ أحْكَامٍ وأقْوَالٍ بَاطِلَةٍ!

وقَدْ دَعَتْنِي الحَاجَّةُ العِلْمِيَّةُ هُنَا إلى ذِكْرِهَا على طُولٍ فِيْهَا لأهَمِّيَّتِهَا وعَظِيْمِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الأحْكَامِ والفَوائِدِ الَّتِي تَدُلُّ على عُلُوِّ كَعْبِ ابنِ تَيْمِيَّةَ ورُسُوخِ عِلْمِيَّتهِ وقُوَّةِ حُجَّتِهِ كَمَا لَا يَخْفَى، فَهَاكَهَا كَمَا يَلِي:

قَالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ في «الفَتَاوَى الكُبْرَى» (1/2)؛ «وسُئِلَ (ابنُ تَيْمِيَّةَ): عَنْ رَجُلٍ إذَا صَلَّى يُشَوِّشُ على الصُّفُوفِ الَّذِي حَوَالَيْهِ بِالجَهْرِ بِالنِّيَّةِ، وأنْكَرُوا عَلَيْهِ مَرَّةً ولَمْ يَرْجِعْ!

وقَالَ لَهُ إنْسَانٌ: هَذَا الَّذِي تَفْعَلُهُ مَا هُوَ مِنْ دِينِ اللَّهِ، وأنْتَ مُخَالِفٌ فِيهِ السُّنَّةَ!

فَقَالَ: هَذَا دِينُ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ، ويَجِبُ على كُلِّ مُسْلِمٍ أنْ يَفْعَلَ هَذَا، وكَذَلِكَ تِلَاوَةُ القُرْآنِ يَجْهَرُ بِهَا خَلْفَ الإمَامِ.

فَهَلْ هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؟ أوْ أحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ؟ أوْ أحَدٌ مِنَ الأئِمَّةِ الأرْبَعَةِ؟ أوْ مِنْ عُلَمَاءِ المُسْلِمِينَ؟

فَإذَا كَانَ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وأصْحَابُهُ والعُلَمَاءُ يَعْمَلُونَ هَذَا في الصَّلَاةِ: فَمَاذَا يَجِبُ على مَنْ يَنْسُبُ هَذَا إلَيْهِمْ وهُوَ يَعْمَلُهُ؟

فَهَلْ يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ أنْ يُعِينَهُ بِكَلِمَةِ وَاحِدَةٍ، إذَا عَمِلَ هَذَا ونَسَبَهُ إلى أنَّهُ مِنَ الدِّينِ؟

ويَقُولُ لِلْمُنْكِرِينَ عَلَيْهِ: كُلٌّ يَعْمَلُ في دِينِهِ مَا يَشْتَهِي؟

وإنْكَارُكُمْ عَلَيَّ: جَهْلٌ!

وهَلْ هُمْ مُصِيبُونَ في ذَلِكَ أمْ لَا؟

فَأجَابَ: الحَمْدُ لِلَّهِ، الجَهْرُ بِلَفْظِ النِّيَّةِ: لَيْسَ مَشْرُوعًا عِنْدَ أحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ المُسْلِمِينَ، ولَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، ولَا فَعَلَهُ أحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ، وأصْحَابِهِ، وسَلَفِ الأُمَّةِ وأئِمَّتِهَا.

ومَنِ ادَّعَى أنَّ ذَلِكَ دِينُ اللَّهِ، وأنَّهُ وَاجِبٌ: فَإنَّهُ يَجِبُ تَعْرِيفُهُ الشَّرِيعَةَ، واسْتِتَابَتُهُ مِنْ هَذَا القَوْلِ، فَإنْ أصَرَّ على ذَلِكَ: قُتِلَ.

بَلِ النِّيَّةُ الوَاجِبَةُ في العِبَادَاتِ كَالوُضُوءِ والغُسْلِ والصَّلَاةِ والصِّيَامِ والزَّكَاةِ، وغَيْرِ ذَلِكَ: مَحَلُّهَا القَلْبُ بِاتِّفَاقِ أئِمَّةِ المُسْلِمِينَ.

و«النِّيَّةُ»: هِيَ القَصْدُ والإرَادَةُ والقَصْدُ.

و«الإرَادَةُ»: مَحَلُّهَا القَلْبُ دُونَ اللِّسَانِ بِاتِّفَاقِ العُقَلَاءِ، فَلَوْ نَوَى بِقَلْبِهِ: صَحَّتْ نِيَّتُهُ عِنْدَ الأئِمَّةِ الأرْبَعَةِ، وسَائِرُ أئِمَّةِ المُسْلِمِينَ مِنَ الأوَّلِينَ والآخِرِيْنَ، ولَيْسَ في ذَلِكَ خِلَافٌ عِنْدَ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ ويُفْتَى بِقَوْلِهِ.

ولَكِنَّ بَعْضَ المُتَأخِّرِينَ مِنْ أتْبَاعِ الأئِمَّةِ: زَعَمَ أنَّ اللَّفْظَ بِالنِّيَّةِ وَاجِبٌ، ولَمْ يَقُلْ إنَّ الجَهْرَ بِهَا وَاجِبٌ!

ومَعَ هَذَا؛ فَهَذَا القَوْلُ خَطَأٌ صَرِيحٌ مُخَالِفٌ لِإجْمَاعِ المُسْلِمِينَ، ولِمَا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الإسْلَامِ عِنْدَ مَنْ يَعْلَمُ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وسُنَّةَ خُلَفَائِهِ، وكَيْفَ كَانَ يُصَلِّي الصَّحَابَةُ والتَّابِعُونَ.

فَإنَّ كُلَّ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ: يَعْلَمُ أنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَتَلَفَّظُونَ بِالنِّيَّةِ، ولَا أمَرَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ بِذَلِكَ، ولَا عَلَّمَهُ لِأحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، بَلْ قَدْ ثَبَتَ في «الصَّحِيحَيْنِ» وغَيْرِهِمَا: أنَّهُ قَالَ لِلْأعْرَابِيِّ المُسِيءِ في صَلَاتِهِ: «إذَا قُمْتَ إلى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ»، وفي «السُّنَنِ» عَنْهُ ﷺ أنَّهُ قَالَ: «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ، وتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» [أحْمَدُ]، وفي «صَحِيْحِ مُسْلِمٍ» عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ والقِرَاءَةِ بالحَمْدِ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ».

وقَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ المُتَوَاتِرِ وإجْمَاعِ المُسْلِمِينَ: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ والصَّحَابَةَ كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ، ولَمْ يَنْقُلْ مُسْلِمٌ لَا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، ولَا عَنْ أحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أنَّهُ قَدْ تَلَفَّظَ قَبْلَ التَّكْبِيرِ بِلَفْظِ النِّيَّةِ - لَا سِرًّا ولَا جَهْرًا -، ولَا أنَّهُ أمَرَ بِذَلِكَ.

ومِنَ المَعْلُومِ: أنَّ الهِمَمَ والدَّوَاعِيَ مُتَوَفِّرَةٌ على نَقْلِ ذَلِكَ، لَوْ كَانَ ذَلِكَ، وأنَّهُ يَمْتَنِعُ على أهْلِ التَّوَاتُرِ - عَادَةً وشَرْعًا -: كِتْمَانُ نَقْلِ ذَلِكَ، فَإذَا لَمْ يَنْقُلْهُ أحَدٌ: عُلِمَ قَطْعًا أنَّهُ لَمْ يَكُنْ.

ولِهَذَا يَتَنَازَعُ الفُقَهَاءُ المُتَأخِّرُونَ في اللَّفْظِ بِالنِّيَّةِ: هَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ مَعَ النِّيَّةِ الَّتِي في القَلْبِ؟

فَاسْتَحَبَّهُ طَائِفَةٌ مِنْ أصْحَابِ أبِي حَنِيفَةَ والشَّافِعِيِّ وأحْمَدَ، قَالُوا: لِأنَّهُ أوْكَدُ، وأتَمُّ تَحْقِيقًا لِلنِّيَّةِ.

ولَمْ يَسْتَحِبَّهُ طَائِفَةٌ مِنْ أصْحَابِ مَالِكٍ وأحْمَدَ وغَيْرِهِمَا، وهُوَ المَنْصُوصُ عَنْ أحْمَدَ وغَيْرِهِ، بَلْ رَأوْا أنَّهُ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ.

قَالُوا: لَوْ أنَّهُ كَانَ مُسْتَحَبًّا لَفَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، أوْ لَأمَرَ بِهِ؛ فَإنَّهُ ﷺ قَدْ بَيَّنَ كُلَّ مَا يُقَرِّبُ إلى اللَّهِ لَا سِيَّمَا الصَّلَاةُ الَّتِي لَا تُؤْخَذُ صِفَتُهَا إلَّا عَنْهُ، وقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ في «الصَّحِيحِ» أنَّهُ قَالَ: «صَلُّوا كَمَا رَأيْتُمُونِي أُصَلِّي» [البُخَاري].

قَالَ هَؤُلَاءِ: فَزِيَادَةُ هَذَا وأمْثَالِهِ في صِفَةِ الصَّلَاةِ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الزِّيَادَاتِ المُحْدَثَةِ في العِبَادَاتِ: كَمَنْ زَادَ في العِيدَيْنِ الأذَانَ والإقَامَةَ، ومَنْ زَادَ في السَّعْيِ صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ على المَرْوَةِ، وأمْثَالِ ذَلِكَ.

قَالُوا: وأيْضًا فَإنَّ التَّلَفُّظَ بِالنِّيَّةِ فَاسِدٌ في العَقْلِ؛ فَإنَّ قَوْلَ القَائِلِ: «أنْوِي أنْ أفْعَلَ كَذَا وكَذَا»!

بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: «أنْوِي آكُلُ هَذَا الطَّعَامَ لِأشْبَعَ، وأنْوِي ألْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ لِأسْتَتِرَ»، وأمْثَالُ ذَلِكَ مِنَ النِّيَّاتِ المَوْجُودَةِ في القَلْبِ الَّتِي يُسْتَقْبَحُ النُّطْقُ بِهَا، وقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿أتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ واللَّهُ يَعْلَمُ مَا في السَّمَاوَاتِ ومَا في الأرْضِ﴾ [الحجرات:16].

وقَالَ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾ [الإنسان:9]، قَالُوا: لَمْ يَقُولُوا بِألْسِنَتِهِمْ، وإنَّمَا عَلِمَهُ اللَّهُ مِنْ قُلُوبِهِمْ فَأخْبَرَ بِهِ عَنْهُمْ.

وبِالجُمْلَةِ: فَلَا بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ في القَلْبِ بِلَا نِزَاعٍ، وأمَّا التَّلَفُّظُ بِهَا سِرًّا: فَهَلْ يُكْرَهُ أوْ يُسْتَحَبُّ؟ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ المُتَأخِّرِينَ.

وأمَّا الجَهْرُ بِهَا: فَهُوَ مَكْرُوهٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِاتِّفَاقِ المُسْلِمِينَ، وكَذَلِكَ تَكْرِيرُهَا أشَدُّ وأشَدُّ!

وسَوَاءٌ في ذَلِكَ الإمَامُ والمَأْمُومُ والمُنْفَرِدُ: فَكُلُّ هَؤُلَاءِ لَا يُشْرَعُ لِأحَدِ مِنْهُمْ أنْ يَجْهَرَ بِلَفْظِ النِّيَّةِ، ولَا يُكَرِّرَهَا بِاتِّفَاقِ المُسْلِمِينَ؛ بَلْ يُنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ.

بَلْ جَهْرُ المُنْفَرِدِ بِالقِرَاءَةِ إذَا كَانَ فِيهِ أذًى لِغَيْرِهِ لَمْ يُشْرَعْ، كَمَا خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ على أصْحَابِهِ وهُمْ يُصَلُّونَ فَقَالَ: «أيُّهَا النَّاسُ كُلُّكُمْ يُنَاجِي رَبَّهُ فَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ على بَعْضٍ بِالقِرَاءَةِ» [أحْمَدُ].

وأمَّا المَأْمُومُ: فَالسُّنَّةُ لَهُ المُخَافَتَةُ بِاتِّفَاقِ المُسْلِمِينَ؛ لَكِنْ إذَا جَهَرَ أحْيَانًا بِشَيْءِ مِنَ الذِّكْرِ: فَلَا بَأْسَ، كَالإمَامِ إذَا أسْمَعَهُمْ أحْيَانًا الآيَةَ في صَلَاةِ السِّرِّ، فَقَدْ ثَبَتَ في «الصَّحِيحِ» عَنْ أبِي قَتَادَةَ أنَّهُ أخْبَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «أنَّهُ كَانَ في صَلَاةِ الظُّهْرِ والعَصْرِ يُسْمِعُهُمْ الآيَةَ أحْيَانًا»، وثَبَتَ في «الصَّحِيحِ»: أنَّ مِنَ الصَّحَابَةِ المَأْمُومِينَ مَنْ جَهَرَ بِدُعَاءٍ حِينَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، وعِنْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ مِنَ الرُّكُوعِ، ولَمْ يُنْكِرِ النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ.

ومَنْ أصَرَّ على فِعْلِ شَيْءٍ مِنَ البِدَعِ وتَحْسِينِهَا: فَإنَّهُ يَنْبَغِي أنْ يُعَزَّرَ تَعْزِيرًا يَرْدَعُهُ وأمْثَالُهُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ.

ومَنْ نَسَبَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ البَاطِلَ خَطَأً: فَإنَّهُ يُعَرَّفُ، فَإنْ لَمْ يَنْتَهِ: عُوقِبَ.

ولَا يَحِلُّ لِأحَدِ أنْ يَتَكَلَّمَ في الدِّينِ بِلَا عِلْمٍ، ولَا يُعِينَ مَنْ تَكَلَّمَ في الدِّينِ بِلَا عِلْمٍ، أوْ أدْخَلَ في الدِّينِ مَا لَيْسَ مِنْهُ.

وأمَّا قَوْلُ القَائِلِ: «كُلٌّ يَعْمَلُ في دِينِهِ الَّذِي يَشْتَهِي»!

فَهِيَ كَلِمَةٌ عَظِيمَةٌ يَجِبُ أنْ يُسْتَتَابَ مِنْهَا وإلَّا عُوقِبَ؛ بَلِ الإصْرَارُ على مِثْلِ هَذِهِ الكَلِمَةِ يُوجِبُ القَتْلَ؛ فَلَيْسَ لِأحَدٍ أنْ يَعْمَلَ في الدِّينِ إلَّا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ ورَسُولُهُ دُونَ مَا يَشْتَهِيهِ ويَهْوَاهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ أضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾ [القصص:50]، وقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام:119]، ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [ص:26]، وقَالَ: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا أهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وأضَلُّوا كَثِيرًا وضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ [المائدة:77]، وقَالَ تَعَالَى: ﴿أرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ أفَأنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وكِيلًا أمْ تَحْسَبُ أنَّ أكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أوْ يَعْقِلُونَ إنْ هُمْ إلَّا كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الفرقان:43-44]، وقَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَا ورَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا في أنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء:65].

وقَدْ رُوِيَ عَنْهُ ﷺ أنَّهُ قَالَ: «والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْت بِهِ» [أخْرَجَهُ الخَطِيْبُ في «تَارِيْخِ بَغْدَادَ» (4/369)، والبَغَوي في «شَرْحِ السُّنَّةِ» رَقْم (104)، وابنُ أبي عَاصِمٍ في «السُّنَّةِ» رَقْم (15)، وابنُ بَطَّةَ في «الإبَانَةِ» (1/387)].

قَالَ تَعَالَى: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الذين يَزْعُمُونَ أنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ ومَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أنْ يَتَحَاكَمُوا إلى الطَّاغُوتِ وقَدْ أُمِرُوا أنْ يَكْفُرُوا بِهِ ويُرِيدُ الشَّيْطَانُ أنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا وَإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلى مَا أنْزَلَ اللَّهُ وإلى الرَّسُولِ رَأيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا﴾ [النساء:60-61]، وقَالَ تَعَالَى: ﴿أمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى:21]، وقَالَ تَعَالَى: ﴿المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إلَيْكَ فَلَا يَكُنْ في صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ولَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف:1-3]، وقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ والأرْضُ ومَنْ فِيهِنَّ﴾ [المؤمنون:71]، وأمْثَالُ هَذَا في القُرْآنِ كَثِيرٌ.

فَتَبَيَّنَ أنَّ على العَبْدِ أنْ يَتَّبِعَ الحَقَّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ، ولَا يَجْعَلَ دِينَهُ تَبَعًا لِهَوَاهُ، واللَّهُ أعْلَمُ» انْتَهَى كَلامُهُ رَحِمَهُ اللهُ.

وأيْضًا؛ فَقَدْ تَكَرَّرَتْ هَذِهِ الفُتْيَا في «مَجْمُوعِ الفَتَاوَى» لابنِ قَاسِمٍ (22/235)، و«مَجْمُوعَةِ الرَّسَائِلِ الكُبْرَى» (1/250).

وهُنَاكَ أيْضًا زِيَادَةٌ مُخْتَصَرَةٌ مُهِمَّةٌ - في نَصِّ سُؤالِ الفُتْيَا - جَاءَ ذِكْرُهَا في «مَجْمُوعَةِ الرَّسَائِلِ الكُبْرَى» (1/250)، كَمَا يَلي: «سئل الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام مفتي الأنام: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن تَيْمِيَّةَ رضي الله عَنْهُ وأرضاه، بالديار المصرية سنة ثمان وسبعمائة:

في رجل يجهر بالنية ويقول: أصلي فرض كَذَا وكَذَا، ويعين الصلاة بعينها، ويعد الركعات بِحَيْثُ يشوش على من إلى جانبه، فأنكر عَلَيْهِ رجل وقَالَ: هَذَا لَمْ يأمر الله بِهِ ولَا رسوله، فَقَالَ لَهُ: بَلْ هَذَا مِمَّا أمر الله بِهِ ورسوله، وكَانَ يجهر الإمام بالتلاوة وهُوَ يقرأ خلفه (أيْ: جَهْرًا)، فَهَلْ كَانَ رسول الله ﷺ يفعله؟ أوْ أحد من الصحابة؟ أوْ أحد من الأئمة الأربعة وغيرهم؟ فَإذَا لَمْ يكن فعله أحد من أئمة المُسْلِمِينَ وعلمائهم: فماذا يجب على من ينسب هَذَا إلَيْهِم، ويقول: كل من يعمل في دينه مَا يشتهى؛ بَلْ أنت جاهل فِيمَا تنكره؟» انْتَهَى.

قُلْتُ: فَمِنْ خِلالِ هَذَا السُّؤالِ المَذْكُورِ آنِفًا؛ يَظْهَرُ لَنَا: أنَّ ابنَ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ يَفْعَلُ أعْمَالًا غَيْرَ مَشْرُوعَةٍ في صَلاتِهِ، وهِيَ مَجْمُوعَةٌ في سِتَّةِ أُمُورٍ، كَمَا يَلي:

1 ـ اعْتِقَادُهُ مَشْرُوعِيَّةَ الجَهْرِ بالنِّيَّةِ، وأنَّهَا مِنَ دِيْنِ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ.

أنَّهُ أوْجَبَ على كُلِّ مُسْلِمٍ أنْ يَجْهَرَ بالنِّيَّةِ في كُلِّ صَلاةٍ.

أنَّهُ أوْجَبَ على كُلِّ مَأمُومٍ في الصَّلاةِ أنْ يَجْهَرَ بتِلَاوَةِ القُرْآنِ خَلْفَ الإمَامِ.

4 ـ تَشْوِيْشُهُ على المُصَلِّيْنَ.

5 ـ إنْكَارُهُ على مَنْ أنْكَرَ عَلَيْهِ اعتقادَهُ بوُجُوبِ مَشْرُوعِيَّةِ الجَهْرِ بالنِّيَّةِ.

تَسْوِيْغُهُ لكُلِّ مُسْلِمٍ أنْ يَشْرعَ في دِينِ اللهِ بِمَا يَشْتَهِي!

فَهُنَا يَظهَرُ لَنَا: أنَّ ابنَ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ يَتَكَلَّمُ عَنْ حُكْمِ رَجُلٍ شَرَعَ في الدِّيْنِ مَا لَمْ يأذَنْ بِهِ اللهُ، مَعَ قَوْلِهِ: بوُجُوبِ الجَهْرِ بالنِّيَّةِ لعُمُومِ المُسْلِمِيْنَ، وقَوْلِهِ أيْضًا: كُلٌّ يَعْمَلُ فِي دِينِهِ مَا يَشْتَهِي، وغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ المُخَالَفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ.

ومِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ: أنَّ السَّائِلَ هَذَا لَيْسَ مِنْ أهْلِ العِلْمِ - لَا مُجْتَهِدٍ ولَا مُقَلِّدٍ -، بَلْ هُوَ جَرِيءٌ على القَوْلِ في دِيْنِ اللهِ بغَيْرِ عِلْمٍ!

والحَالَةُ هَذِهِ، كَانَ جَوابُ ابنِ تَيْمِيَّةَ في هَذِهِ الفُتْيَا مُتَضَمِّنًا خَمْسَةَ أُمُورٍ:

أوَّلًا: أنَّهُ يَجِبُ تَعْرِيفُهُ بالشَّرِيعَةِ.

ثُمَّ ثَانِيًا: اسْتِتَابَتُهُ مِنْ هَذَا القَوْلِ الضَّالِ.

ثُمَّ ثَالِثًا: فَإنْ أصَرَّ - بَعْدَ قِيَامِ الحُجَّةِ عَلَيْهِ -؛ فَعَلى وَلِيِّ الأمْرِ مُعَاقَبَتُهُ بالحَبْسِ ونَحْوِهِ!

ثُمَّ رَابِعًا: فَإنْ أصَرَّ على تَشْرِيْعِهِ للبِدْعَةِ وإيْجَابِهَا على المُسْلِمِيْنَ، وأنَّهَا مِنْ دِيْنِ الإسْلامِ - بَعْدَ قِيَامِ الحُجَّةِ عَلَيْهِ -؛ فَعَلى وَلِيِّ الأمْرِ قَتْلُهُ؛ سَوَاءٌ كَانَ قَتْلُهُ تَعْزِيْرًا أو كُفْرًا، وذَلِكَ بحَسَبِ قَرَائِنِ الحَالِ الَّتِي يُقَدِّرُهَا أهْلُ العِلْمِ، كَمَا مَرَّ!

ثُمَّ خَامِسًا: أنَّهُ أوْكَلَ قَتْلَ المُشَرِّعِ للجَهْرِ بالنِّيَّةِ في الصَّلاةِ وغَيْرِهَا إلى وَلِيِّ الأمْرِ دُوْنَ سِوَاهُ.

وهَذَا مَا ذَكَرَهُ رَحِمَهُ اللهُ في «مَجْمُوعِ الفَتَاوَى» (22/240) بقَوْلِهِ: «ومَنْ أصَرَّ على فِعْلِ شَيْءٍ مِنَ البِدَعِ وتَحْسِينِهَا: فَإنَّهُ يَنْبَغِي أنْ يُعَزَّرَ تَعْزِيرًا يَرْدَعُهُ وأمْثَالُهُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ، ومَنْ نَسَبَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ البَاطِلَ خَطَأً: فَإنَّهُ يُعَرَّفُ، فَإنْ لَمْ يَنْتَهِ عُوقِبَ»، وقَدْ مَرَّ مَعَنَا نَحْوُهُ.

وعَلَيْهِ؛ فَقَدْ أجْمَعُ أهْلُ العِلْمِ على تَكْفِيْرِ مَنْ شَرَعَ في الدِّيْنِ مَا لَمْ يَأذَنْ بِهِ اللهُ تَعَالَى، وذَلِكَ بَعْدَ اسْتِتَابَتِهِ وقِيَامِ الحُجَّةِ عَلَيْهِ، فَإذَا أصَرَّ بَعْدَئِذٍ؛ فَعَلى وَلِيِّ الأمْرِ قَتْلُهُ، وهَذَا مِمَّا لَا خِلافَ فِيْهِ بَيْنَ أهْلِ العِلْمِ قَدِيْمًا وحَدِيْثًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى:21]، واللهُ أعْلَمُ.

* * *

وأخِيْرًا؛ فَهَذَهِ مجموعةٌ من الفتاوى العلمية المتعلقة بحكم الجهر بالنية في الصلاة؛ قد نص عليها بعض الفقهاء الكبار؛ حيث وافقوا فيها شَيْخَ الإسْلامِ ابنَ تَيْمِيَّةَ على مَا أفْتَى بِهِ السَّائِلَ حُكْمًا ودَلَالَةً.

وقد جاءت فتاواهم العلمية هَذِهِ مع غيرها ضمن مخطوط عزيز، وقف عليه المُحَقِّقُ إبْرَاهِيْمُ بنُ حَسَنٍ الفَيُّومِيُّ رَحِمَهُ اللهُ، وقد طبعها ضِمْنَ «مَجْمُوْعَةِ الرَّسَائِلِ الكُبْرَى» في مُجَلَّدَيْنِ، فعندها أخرجها محققةً مصححةً، فجزاه الله خيرا.

وعليه؛ فقد جاء في هَذَا المجموع الخطي: أصْلُ الفتيا الخاصة الَّتِي نص عليها ابنُ تَيْمِيَّةَ مع إلحقات لها بفتاوى محررة لبعض أهل العلم الكبار؛ تعزيزا منهم لفتيا ابنِ تَيْمِيَّةَ وإقرارا بمَا جاء فيها من خلال كلام علمي محرر، كَمَا سَيَأتي.

وإليك أخي المسلم نَصُّ هَذِهِ الفتاوى العلمية، كما يلي:

جَاءَ في «مَجْمُوْعَةِ الرَّسَائِلِ الكُبْرَى» (1/254) - بَعْدِ ذِكْرِ فُتْيَا ابنِ تَيْمِيَّةَ المَذْكُورَةِ آنِفًا -: «وأجاب عَنِ المسألة المذكورة أيْضًا (أيْ: فُتْيَا ابنِ تَيْمِيَّةَ): الشيخ الإمام العالم قاضي القضاة جمال الدين أبو الربيع سليمان بن عمر الشافعي [المَغْرِبِي المُتَوَفَّى سَنَةَ (734)] رضي الله عَنْهُ وأرضاه:

الحَمْدُ لله رب العالمين، الله الموفق، النية المعتبرة في الصلاة، وجميع العبادات محلها القلب، فَلَا يضر عدم النطق بِهَا، كَمَا لَوْ نوى بقلبه الظهر وسبق لسانه إلى العصر، ولَا يكفي النطق بِهَا مَعَ غفلة القلب، وإنَّمَا استحب بعض أصحابنا مساعدة اللسان القلب من غير جهر، وقَدْ شذ صاحب الإفصاح بِمَا نقله عَنْ بعض أصحابنا: أنَّهُ لَابُدَّ من التَّلَفُّظِ بِهَا في الصلاة، وهُوَ خلاف قول جمهور الأصحاب.

وأمَّا الجهر بِهَا وبالقراءة خلف الإمام: فَلَيْسَ من السنة؛ بَلْ مكروه، فإن حصل بِهِ تشويش على المصلين: فحرام، ومن قَالَ بأن الجهر بلفظ النية من السنة: فَهُوَ مخطئ، ولَا يحل لَهُ ولَا لغيره أن يقول في دين الله تَعَالَى بغير علم، ولَا يجوز لأحد إعانة من قَالَ في الدين بغير علم.

وقوله: كل من يعمل في دينه مَا يشتهى، فَهَذَا قول جاهل يعزر على ذَلِكَ؛ إذْ لَيْسَ لأحد أن يعمل في دين الله تَعَالَى إلَّا مَا شرعه الله تَعَالَى ورسوله، ومن فعل غير ذَلِكَ: فَقَدْ اتبع هواه، نعوذ بِاللَّهِ تَعَالَى من اتباع الهوى.

وقَدْ تكرر في الكتاب العزيز الذم والإنكار على من اتبع هواه، وقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ [المائدة:77]، وقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام:119]، إلى غير ذَلِكَ مِمَّا ورد في القرآن من أمثاله، والله أعلم، والحَمْدُ لله وحده.

ثُمَّ جَاءَ بَعْدَهَا أيْضًا (1/255): «وأجاب عَنْهَا الشيخ الإمام العالم العلامة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن الحريري الأنصاري [الحَنَفِيُّ المُتَوَفَّى سَنَةَ (728)] عفا الله عَنْهُ:

الحَمْدُ لله رب العالمين، اللَّهُمَّ وفق والطف، مَا كَانَ النبي ﷺ يفعل ذَلِكَ، ولَا أحد من أصحابه رضي الله عَنْهُمْ، ولَا أحد من الأئمة الأربعة، ولَا علماء المُسْلِمِينَ تفعل مثل ذَلِكَ، والنية هِيَ الإرادة والشرط أن يعلم بقلبه أيَّ صلاة يصلي، أمَّا الذكر باللسان: فَلَا معتبر بِهِ، ويحسن ذَلِكَ لاجتماع عزيمته، فإن زعم الفاعل لِذَلِكَ أن هَذَا هُوَ دين الله تَعَالَى: فَقَدْ كذب على الله تَعَالَى ورسوله ﷺ، وأدخل في دين الله تَعَالَى مَا لَيْسَ فِيهِ، يستتاب بَعْدَ التعريف، وتزاح عَنْهُ هَذِهِ الشبهة الَّتِي عرضت لَهُ، فإن تاب وإلَّا قتل بِذَلِكَ.

والجهر بالتلاوة خلف الإمام لَا يجوز، ولَا نقل عَنْ النبي ﷺ، ولَا عَنْ أحد من أصحابه، والعلماء على خلافه، ويجب تعزيره على ذَلِكَ، ولَا يحل لأحد أن يعينه على هَذَا، ومن أعانه وجب تعزيره.

وقوله: كل من يعمل في دينه مَا يشتهى، فَقَدْ كذب على الشريعة المطهرة؛ بَلْ يجب عَلَيْنَا اتباع مَا جَاءَ بِهِ كتاب الله تَعَالَى، وسنة رسوله ﷺ، فإن اعتقد أن هَذَا هُوَ الدين: فقد كفر بِاللَّهِ تَعَالَى ورسوله ﷺ، فيستتاب فإن تاب وإلَّا قتل والحالة هَذِهِ، والله أعلم».

ثُمَّ جَاءَ بَعْدَهَا أيْضًا (1/256): «وأجاب عَنْهَا الشيخ الإمام العالم العلامة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم التونسي المالكي [المُتَوَفَّى سَنَةَ (763)] رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:

الحَمْدُ لله، اللَّهُمَّ ارحم ووفق، النية من أعمال القلوب، فالجهر بِهَا بدعة مَعَ مَا في ذَلِكَ من التشويش على الناس، وكَذَلِكَ الجهر بالقرآن فيزجر عَنْ ذَلِكَ، ويلزم بالاتباع للسنة، وإنكاره على المنكر عَلَيْهِ جهل ودعوى باطلة.

وقوله: كل من يعمل في دينه مَا يشتهى، فَهَذَا أمر شنيع يقارب الكفر يجب تأديبه عَلَيْهِ، وأن يتوب مِنْهُ، ونعوذ بالله من الجهل واتباع الهوى، ونسأله الهدى والعصمة، والله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى أعلم».

ثُمَّ جَاءَ بَعْدَهَا أيْضًا (1/256): «وأجاب عَنْهُ الشيخ الإمام العالم العلامة علاء الدين ابن العطار [الشَّافِعِي المُتَوَفَّى سَنَةَ (724)]، عفا الله عَنْهُ:

الحَمْدُ لله، لَا يشرع تعيين عدد الركعات، ولَا الجماعة في النية، وأمَّا التَّلَفُّظُ بِهَا من غير تشويش: فَلَا بأس بِهِ إذَا كَانَ مطابقا للقلب، ولَا يشترط، ولَا يجب، ورفع الصوت بِهِ مَعَ التشويش على المصلين: حرام إجماعا، ومَعَ عدمه: بدعة قبيحة، فإن قصد بِهِ الرياء: كَانَ حراما من وجهين كبيرة من الكبائر، والمُنْكِرُ عَلَيْهِ مصيب، ومُصَوِّبُهُ مخطئ، ونسبته إلى دين الله تَعَالَى اعتقادا: كفر، وغير اعتقاد: معصية، ولَا يحل ترك كل أحد ودينه خصوصا إذَا كَانَ قدوة وعمله مخالفا للسنة؛ بَلْ يجب على كل مؤمن تمكن في زَجْرِهِ زَجْرُهُ ومنعه وردعه، ولَمْ ينقل هَذَا النقل عَنْ رسول الله ﷺ، ولَا عَنْ أحد من أصحابه، ولَا عَنْ أحد ممن يقتدى بِهِ من علماء الإسلام.

وأصل النية مشروع في جميع الأعمال - الصلاة وغيرها -، ومحلها القلب، وهَلْ يشترط مقارنتها لأول العبادة - بِمَعْنَى أنَّهَا جزء من العبادة -، أوْ لَا يشترط ذَلِكَ؟ ويجعلها شرطا لصحة العبادة، لَا يضر تقدمها عَلَيْهَا، مذهب الشافعي رَحِمَهُ اللهُ الأول، ومذهب بعض أصحابه وجماعة من العلماء الثَّانِي، ومن فعل النية على مَا ذكر في الاستفتاء فعمله غير صحيح، قَالَ معاذ بن جبل رضي الله عَنْهُ - الَّذِي قَالَ رسول الله ﷺ فِيهِ: «أعلم أمتي بالحلال والحرام»، قَالَ معاذ -: العمل الصالح هُوَ الَّذِي يسبقه العلم والنية والصبر والإخلاص مشتمل عَلَيْهِ، فكل عمل لَمْ يشتمل على هَذِهِ الأربعة فَلَيْسَ: بصالح، ونية هَذَا الرجل لَيْسَ على وفق العلم، ولَا قصد بِهَا الصبر على مقتضاه، ولَا أخلص فِيهَا لله تَعَالَى، والله يعلم المفسد من المصلح» انْتَهَى.

* * *

خُلَاصَةُ مَوْقِفِ ابنِ تَيْمِيَّةَ مِنَ الجَهْرِ بالنِّيَّةِ في الصَّلَاةِ:

هُنَاكَ فَرْقٌ بَيْنَ مَسْألَةِ التَّلَفُّظِ بالنِّيَّةِ في الصَّلَاةِ وبَيْنَ الجَهْرِ بِهَا

فَالأُوْلَى: بِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ اتِّفَاقًا، وهِيَ مِنَ المَسَائِلِ الخِلافِيَّةِ.

والثاني: بِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ إجْمَاعًا، ولَيْسَتْ من مَسَائِلِ الخِلافِ في شَيْءٍ.

هُنَاكَ فَرْقٌ بَيْنَ مَنْ أصَرَّ على التَّلَفُّظِ بالنية وبَيْنَ مَنْ شَرَعَهَا وأوْجَبَهَا في دِيْنِ الإسْلامِ.

فالأوَّلُ: مُبْتَدِعٌ عَاصٍ، يَجِبُ تَأدِيْبُهُ وعُقُوبَتُهُ بالحَبْسِ ونَحْوِهِ.

والثَّاني: مُشَرِّعٌ يَجِبُ قَتْلُهُ تَعْزِيْرًا أو رِدَّةً، بِحَسَبِ مَا يُقَرِّرُهُ أهْلُ العِلْمِ، كَمَا مَرَّ!

هُنَاكَ فَرْقٌ بَيْنَ المَعْصِيَةِ والبِدْعَةِ والتَّشْرِيْعِ!

فالمعصية: هِيَ مَا يَفْعَلُهَا المُسْلِمُ مُقِرًّا بأنها مخالفةٌ لأمر الله.

وأمَّا البدعةُ: فَهِيَ مَا يُحْدِثُهَا المُسْلِمُ ظَنًّا منه أنها من الدين؛ سواء كان هَذَا الظَّنُّ منه بطريق التحسين لها، أو بطريق تأويل بعض النصوص الشرعية الَّتِي يظنها دليلا عليها.

وأمَّا التشريع: فَهُوَ مَا يفعله الإنسان مُضَاهَاةً مِنْهُ لشرع الله تعالى - لا تأويلا منه ولا اجتهادا -.

أنَّ ابنَ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ لَمْ يَنْفَرِدْ بهَذِهِ الفُتْيَا في حُكْمِهِ على مَنْ جَهَرَ بالنِّيَّةِ في الصَّلاةِ، بَلْ وَافَقَهُ عَلَيْهَا أئِمَّةٌ كِبَارٌ قَدْ عَاصَرُوهُ، وهُمْ مِنْ أصْحَابِ المَذَاهِبِ الفِقْهِيَّةِ.

هُنَاكَ فَرْقٌ بَيْنَ مَنْ يُقْتَلُ حَدًّا أو تَعْزِيْرًا وبَيْنَ مَنْ يُقْتَلُ كُفْرًا أو رِدَّةً.

هُنَاكَ فَرْقٌ بَيْنَ الخلافات مَعَ ابنِ تَيْمِيَّةَ:

فمِنْهَا: مَا هُوَ في المَسَائِلِ الفَرْعِيَّةِ الَّتِي يَسُوغُ فِيْهَا الخِلافُ، فَهَذَهِ لَا تَثْرِيْبَ فيها.

ومِنْهَا: مَا هُوَ في أُصُولِ الدِّيْنِ مِمَّا لا يَسُوغُ فِيْهِ الخِلافُ، فَهَذَهِ غَالِبًا تَكُونُ مَعَ أهْلِ الأهْوَاءِ والبِدَعِ، وهُمْ على قِسْمَيْنِ:

الأوَّلُ: أصْحَابُ دَعَاوَىَ عِلْمِيَّةٍ لَا يَدْعَمُهَا دَلِيْلٌ نَقْلِيٌّ ولَا عَقْلِيٌّ.

الثَّاني: أصْحَابُ اتِّهَمَاتٍ كَاذِبَةٍ، وألْسِنَةٍ بَذِيْئَةٍ.

أنَّ النِّيَّةَ في العِبَادَاتِ تَنْقَسِمُ إلى أرْبَعِ صُوُرٍ:

الصُّوْرَةُ الأُوْلَى: أنَّ النِّيَّةَ مَحَلُّهَا القَلْبُ، وهَذِهِ الصُّوْرَةُ مَشْرُوعَةٌ بالإجْمَاعِ.

الصُّوْرَةُ الثَّانِيَةُ: التَّلَفُّظُ بِهَا سِرًّا - لَا جَهْرًا -، وهَذِهِ بِدْعَةٌ بالاتِّفَاقِ.

الصُّوْرَةُ الثَّالِثَةُ: التَّلَفُّظُ بِهَا جَهْرًا، وهَذِهِ بِدْعَةٌ بالإجْمَاعِ.

الصُّوْرَةُ الرَّابِعَةُ: اعْتِقَادُ وُجُوبِ مَشْرُوعِيَّةِ الجَهْرِ بالنِّيَّةِ في العِبَادَاتِ، وهَذِهِ بِدْعَةٌ وضَلالٌ بالإجْمَاعِ؛ وصَاحِبُهَا يُسْتَتَابُ مِنِ اعْتِقَادِهِ الضَّالِ وإلَّا على وَلِيِّ الأمْرِ قَتْلُهُ تَعْزِيْرًا أو رِدَّةً.

أنَّ المُشَرِّعَ في الدِّيْنِ لَهُ حَالَتَاَنِ:

الحَالَةُ الأُوْلَى: مَنْ شَرَّعَ في الدِّيْنِ مِنْ خِلالِ شُبْهَةٍ أو تَأوِيْلٍ: فَهَذَا يُسْتَتَابُ وإلَّا قُتِلَ تَعْزِيْرًا.

الحَالَةُ الثَّانِيَةُ: مَنْ شَرَّعَ في الدِّيْنِ بغَيْرِ شُبْهَةٍ أو تَأوِيْلٍ: فَهَذَا يُسْتَتَابُ وإلَّا قُتِلَ رِدَّةً.

أنَّ فُتْيَا ابنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ الَّتِي نَصَّ فِيْهَا على قَتْلِ المُجَاهِرِ بالنِّيَّةِ في الصَّلاةِ، قَدْ تَضَمَّنَتْ أعْمَالًا غَيْرَ مَشْرُوعَةٍ في صَلاتِهِ، تَسْتَوْجِبُ قَتْلَ صَاحِبِهَا مَا لَمْ يَتُبْ بَعْدَ اسْتِتَابَتِهِ.

10ـ أنَّ جَوابَ ابنِ تَيْمِيَّةَ في الفُتْيَا قَدْ تَضَمَّنَ خَمْسَةَ أُمُورٍ:

أوَّلًا: أنَّهُ يَجِبُ تَعْرِيفُهُ بالشَّرِيعَةِ.

ثَانِيًا: اسْتِتَابَتُهُ مِنْ هَذَا القَوْلِ الضَّالِ.

ثَالِثًا: فَإنْ أصَرَّ - بَعْدَ قِيَامِ الحُجَّةِ عَلَيْهِ -؛ فَعَلى وَلِيِّ الأمْرِ مُعَاقَبَتُهُ بالحَبْسِ ونَحْوِهِ!

رَابِعًا: فَإنْ أصَرَّ على تَشْرِيْعِهِ للبِدْعَةِ وإيْجَابِهَا على المُسْلِمِيْنَ، وأنَّهَا مِنْ دِيْنِ الإسْلامِ - بَعْدَ قِيَامِ الحُجَّةِ عَلَيْهِ -؛ فَعَلى وَلِيِّ الأمْرِ قَتْلُهُ؛ سَوَاءٌ كَانَ قَتْلُهُ تَعْزِيْرًا أو كُفْرًا، وذَلِكَ بحَسَبِ قَرَائِنِ الحَالِ الَّتِي يُقَدِّرُهَا أهْلُ العِلْمِ.

خَامِسًا: أنَّهُ أوْكَلَ قَتْلَ المُشَرِّعِ للجَهْرِ بالنِّيَّةِ في الصَّلاةِ وغَيْرِهَا إلى وَلِيِّ الأمْرِ دُوْنَ سِوَاهُ، واللهُ أعْلَمُ.

والحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على عَبْدِهِ ورَسُولِهِ الأمِيْنِ.

وكَتَبَهُ
ذِيَابُ بنُ سَعْدٍ آلُ حَمْدَانَ الغَامِديُّ
في ليلةِ الأربعاءِ المُوافِقِ (14/جُمَادَى الأُوْلى/1444).

 

 
 
اسمك :  
نص التعليق : 
      
 
 
 

 
 
 اشتراك
 انسحاب
اشتراك
انسحاب
 المتواجدون حاليا: ( 40 )
 الزيارات الفريدة: ( 2648924)