مجمل مادار بين الصحابة في الفتنة
|
|
|
مُجْمَلُ ما دَارَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم
وذَلِكَ في ثَلاثَةِ أُمُوْرٍ
ولَنَا أنْ نُجْمِلَ ما دَارَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم في ثَلاثَةِ أُمُوْرٍ لا رَابِعَ لها كَمَا أجْمَعَتْ عَلَيْه كُتُبُ التَّوَارِيْخِ المَوْثُوْقةِ المَشْهُوْرَةِ، وهُوَ مَا عَلَيْه قَاطِبَةُ أهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ مِنَ السَّلَفِ والخَلَفِ، ومَنْ تأوَّلَ فِيْهَا غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أضَاعَ نَصِيْبَه، وتَكَلَّفَ ما لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، وقَالَ على الصَّحَابةِ ما هُم مِنْهُ بُرَاءٌ .
* * *
الأمْرُ الأوَّلُ : تَحْدِيْدُ بِدَايَةِ التَّشَاجُرِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم .
لَقَدِ اتَّفَقَتْ كُتُبُ التَّارِيْخِ على أنَّ بِدَايَةَ التَّشَاجُرِ بَيْنَ خَيْرِ القُرُوْنِ كَانَ بَعْدَ مَقْتَلِ ثَالِثِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِيْنَ ذِي النُّوْرَيْنِ عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وبِدَايَةِ خِلافَةِ رَابِعِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِيْنَ أبي الحَسَنِ عَلِيِّ بنِ أبي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وعَنِ الصَّحَابَةِ أجْمَعِيْنَ .
وهَذَا فِيْهِ رَدٌّ ظَاهِرٌ على الشِّيْعةِ الغَالِيْنَ الَّذِيْنَ يَرَوْنَ أنَّ الخِلافَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم كَانَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبيِّ ﷺ (زَعَمُوا) وهُوَ أنَّ النَّبيَّ ﷺ قَدْ أوْصَى بالخِلافَةِ لعَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ إلَّا إنَّ الصَّحَابَةَ خَالَفُوْا هَذِهِ الوَصِيَّةَ النَّبَوِيَّةَ وأخَذُوا الخِلافَةَ مِنْ عَليٍّ قَهْرًا وظُلْمًا في حِيْنَ أنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ احْتَمَلَ هَذَا الظُّلْمَ، وصَبَرَ مُنْذُ خِلافَةِ أبي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حَتَّى مَقْتَلَ عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وهَذَا وغَيْرُه لاشَكَّ أنَّه مِنْ خُرَافاتِهِم وسَخَافاتِهِم مِمَّا تَأبَاهُ العُقُوْلُ المُسْتَقِيْمَةُ، والفِطَرُ السَّلِيْمَةُ!
لِذَا؛ لَنْ أتَكَلَّفَ الرَّدَّ على هَذَا القَوْلِ؛ لأنَّ أصْحَابَهُ غَدَوْا سُبَّةَ بَنِي آدَمَ، هَذَا إذا عَلِمْتَ أنَّهُم : أكْذَبُ النَّاسِ في النَّقلِيَاتِ، وأجْهَلُهُم في العَقْليَّاتِ
* * *
الأمْرُ الثَّاني : الدَّافِعُ الَّذِي حَمَلَ الصَّحَابةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم على التَّشَاجُرِ بَيْنَهُم .
وقَدِ أتَّفَقَ أهْلُ السُّنَّةِ على أنَّ الدَّافِعَ الَّذِي حَمَلَ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم على ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هَوَىً، أو رِياسَةً، أو غَيْرَ ذَلِكَ ممَّا هُوَ مِنْ أطْمَاعِ الدُّنْيا، أو حُظُوْظِ النَّفْسِ .
وهَذَا فِيْهِ رَدٌّ (أيْضًا) على ما يُثِيرُه أعْدَاءُ الدِّيْنِ مِنَ اليَهُوْدِ، والنَّصَارَى، والمُسْتَشْرِقِيْنَ وأذْنابِهِم مِنَ العَلْمانِيِّيْنَ المُنَافِقِيْنَ .
«وعَليٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمْ يُقاتِلْ أحَدًا على إمِامَةِ مَنْ قاتَلَهُ، ولا قَاتَلَهُ أحَدٌ على إمَامَتِهِ نَفْسِهِ، ولا ادَّعَى أحَدٌ قَطُّ في زَمَنِ خِلافَتِهِ أنَّه أحَقُّ بالإمَامَةِ مِنْهُ : لا عَائِشَةُ، ولا طَلْحَةُ، ولا الزُّبَيْرُ، ولا مُعَاوِيَةُ وأصْحَابُهُ، ولا الخَوَارِجُ؛ بَلْ كُلُّ الأُمَّةِ كَانُوا مُعْتَرِفِيْنَ بفَضْلِ عَليٍّ وسَابِقَتِهِ بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ، وأنَّه لم يَبْقَ بَعْدَ الصَّحَابَةِ مَنْ يُمَاثِلُهُ في زَمَنِ خِلافَتِهِ .
كَمَا كَانَ عُثْمَانُ، كَذَلِكَ : لَمْ يُنازِعْ أحَدٌ قَطُّ مِنَ المُسْلِمِيْنَ في إمامَتِهِ وخِلافَتِهِ، ولا تَخَاصَمَ اثْنَانِ في أنَّ غَيْرَهُ أحَقُّ بالإمَامَةِ مِنْهُ، فَضْلًا عَنِ القِتَالِ على ذَلِكَ، وكذلِكَ أبُو بَكْرٍ وعُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما .
وبالجُمْلَةِ فَكُلُّ مَنْ كَانَتْ لَهُ خِبْرةٌ بأحْوَالِ القَوْمِ يَعْلَمُ ضَرُوْرِيًّا أنَّه لَمْ يَكُنْ بَيْنَ المُسْلِمِيْنَ مُخَاصَمَةٌ بَيْنَ طائِفَتَيْنِ في إمَامَةِ الثَّلاثَةِ، فَضْلًا عَنْ قِتالٍ ... والخُلَفَاءُ الأرْبَعَةُ لَمْ يَكُنْ على عَهْدِهم طَائِفَتانِ يَظْهَرُ بَيْنَهُم النِّزَاعُ، لا في تَقْدِيْمِ أبي بَكْرٍ على مَنْ بَعْدِهِ وصِحَّةِ إمامَتِهِ، ولا في تَقْدِيْمِ عُمَرَ وصِحَّةِ إمامَتِهِ، ولا في تَقْدِيمِ عُثْمَانَ وصِحَّةِ إمامَتِهِ، ولا في أنَّ عَلِيًّا مُقَدَّمٌ على هَؤلاءِ .
ولَيْسَ في الصَّحَابَةِ بَعْدَهُم مَنْ هُوَ أفْضَلُ مِنْهُ، ولا تَنَازَعَ طَائِفَةٌ مِنَ المُسْلِمِيْنَ بَعْدَ خِلافَةِ عُثْمَانَ في أنَّه لَيْسَ في جَيْشِ عَليٍّ أفْضَلَ مِنْهُ، ولَمْ تُفَضِّلْ طَائِفَةٌ مَعْرُوْفَةٌ عَلَيْه طَلْحَةَ والزُّبَيْرَ، فَضْلًا أنْ تُفَضِّلَ عَلَيْه مُعَاوِيَةَ!
فإنْ قَاتَلُوْهُ مَعَ ذَلِكَ لِشُبْهَةٍ عُرِضَتْ لَهُم، فَلَمْ يَكُنِ القِتَالُ لَهُ لا على أنَّ غَيْرَهُ أفْضَلَ مِنْهُ، ولا أنَّهُ الإمَامُ دُوْنَهُ، ولَمْ يَتَسَمَّ قَطُّ طَلْحَةُ والزُّبَيْرُ باسْمِ الإمَارَةِ، ولا بايَعَهُمَا أحَدٌ عَلى ذَلِكَ .
وعَليٌّ بايَعَهُ كَثِيْرٌ مِنَ المُسْلِمِيْنَ، وأكْثَرُهُم بالمَدِيْنَةِ على أنَّه أمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ، ولَمْ يُبَايِعْ طَلْحَةَ والزُّبَيْرَ أحَدٌ على ذَلِكَ، ولا طَلَبَ أحَدٌ مِنْهُما ذَلِكَ، ولا دَعَا إلى نَفْسِهِ، فإنَّهُما رَضِيَ اللهُ عَنْهُما كَانَا أفْضَلَ وأجَلَّ قَدْرًا مِنْ أنْ يَفْعَلا مِثْلَ ذَلِكَ .
وكَذَلِكَ مُعَاوِيَةُ لَمْ يُبَايِعْهُ أحَدٌ لمَّا مَاتَ عُثْمَانُ عَلَى الإمَامَةِ، ولا حِيْنَ كَانَ يُقاتِلُ عَليًّا بايَعَهُ أحَدٌ على الإمَامَةِ، ولا تَسَمَّى بأمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ، ولا سَمَّاهُ أحَدٌ بذَلِكَ، ولا ادَّعَى مُعَاوِيَةُ وِلايَةً قَبْلَ حُكْمِ الحَكَمَيْنِ .
وعَليٌّ يُسَمِّي نَفْسَهُ أمِيْرَ المُؤمِنِيْنَ في مُدَّةِ خِلافَتِهِ، والمُسْلِمُوْنَ مَعَهُ يُسَمُّونَهُ أمَيْرَ المُؤمِنِيْنَ، لَكِنَّ الَّذِيْنَ قَاتَلُوْهُ مَعَ اعْتِرَافِهِم بأنَّهُ لَيْسَ في القَوْمِ أفْضَلُ مِنْهُ، ادَّعَوْا مَوَانِعَ تَمْنَعُهُم عَنْ طَاعَتِهِ!
ومَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يُحَارِبُوْهُ، ولا دَعَوْهُ وأصْحَابَهُ إلى أن يُبَايِعَ مُعَاوِيَةَ ولا قَالُوا : أنْتَ، وإنْ كُنْتَ أفْضَلَ مِنْ مُعَاوِيَةَ، لَكِنْ مُعَاوِيَةُ أحَقَّ بالإمَامَةِ مِنْكَ، فعَلَيْكَ أنْ تَتَّبِعَهُ؛ وإلَّا قاتَلْنَاكَ!»
* * *
فعَلى هَذَا؛ كَانَ الَّذِي حَمَلَ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم عَلَى التَّشَاجُرِ والتَّناحُرِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ عِنْدَ سَلَفِ هَذِهِ الأمَّةِ؛ هُوَ المُطَالَبَةُ الفَوْرِيَّةُ، ووُجُوْبُ المُسَارَعَةِ بأخْذِ القَوْدِ والقَصَاصِ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ لاسِيَّمَا الَّذِيْنَ تَوَلَّوْا كِبْرَ الفِتْنَةِ مِنَ الثُّوَّارِ المُعْتَدِيْنَ، حَيْثُ نَرَى طَائِفَةً مِنْ أصْحَابِ النَّبِي e أمْثَالَ : أمِّ المُؤْمِنِيْنَ عَائِشَةَ، وطَلْحَةَ، والزُّبَيْرِ، ومُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أجْمَعِيْنَ كَانُوا يَرَوْنَ أنَّه لابُدَّ مِنَ المُطَالَبَةِ بِدَمِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، ووُجُوْبِ الإسْرَاعِ بإقَامَةِ حَدِّ اللهِ عَلَيْهِم كَمَا أمَرَ اللهُ تَعَالى بِذَلِكَ في كِتَابِهِ وسُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ .
في حِيْنَ كَانَ يَرَى الخَلِيْفَةُ الرَّاشِدُ عَليٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إرْجَاءَ وتَأخِيْرَ ما يُرِيدُونَه مِنْ وُجُوْبِ الإسْرْاعِ بأخْذِ القَوْدِ مِنَ القَتَلَةِ حتى يُبَايِعَهُ أهْلُ الشَّامِ جَمِيْعًا كَيْ يَسْتَتِبَّ لَهُ الأمْرُ، ومِنْ ثَمَّ يَتَسَنَّى لَه بَعْدَ ذَلِكَ القَبْضُ عَلَيْهِم!
لاسِيَّمَا والحَالةُ الَّتي يَعِيْشُها الخَلِيْفَةُ الرَّاشِدُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، والوَضْعُ الَّذي أدْرَكَهُ حِيْنَذَاكَ، خِلافَ ما يَظُنُّهُ المُطَالِبُوْنَ بِدَمِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ أهْلِ الشَّامِ وغَيْرِهِم، وذَلِكَ يَكْمُنُ في أمُورٍ جِدُّ خَطِيْرَةٍ لَهَا اعْتِبَارُها ومُلابَسَاتُها ممَّا نَحْسِبُهُ قَدْ خَفِيَ عَلَيْهِم، مِنْهَا :
أوَّلًا : أنَّ قَتَلَةَ عُثْمَانَ مِنْ أهْلِ الفِتْنَةِ كَثِيْرُوْنَ جِدًّا؛ فكان مِنَ الصَّعْبِ مُطَالَبَتُهُم؛ في حِيْنَ نَرَى الفِتْنَةَ تَزْدَادُ يَوْمًا إثْرَ يَوْمٍ .
ثَانيًا : أنَّ قَتَلَةَ عُثْمَانَ مِنْ أهْل الفِتْنَةِ هُم في جَيْشِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، ومِنْ قَبَائِلَ كَثِيْرَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، يَعْسُرُ مُطَالَبَتُهُم والبَحْثُ عَنْهُم، والأمْرُ بَعْدُ لم يَسْتَتِبْ لِخَلِيْفَةِ المُسْلِمِيْنَ، وقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَ فُقَهاءِ المُسْلِمِيْنَ أنَّ الحُدُودَ قَدْ تُأخَّرُ ـ لا تُتْرَكُ بالكُليَّةِ ـ عَنْ أصْحَابِها حَالَةَ الجِهَادِ والفِتَنِ، كما هُوَ مَتْرُوكٌ لِلْمَصْلَحَةِ العَامَّةِ الَّتي يَرَاها وَليُّ أمْرِ المُسْلِمِيْنَ إذا خَافَ كَبِيْرَ مَفْسَدَةٍ؛ بَلْ نَجِدُ قَاعِدَةَ : (دَرْءُ المَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ على جَلْبِ المَصَالِحِ) مِنَ القَوَاعِدِ المُعْتَبَرَةِ الَّتي هِيَ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيْعَةِِ الإسْلامِيَّةِ .
ثَالثًا : أنَّ قَتَلَةَ عُثْمَانَ لم يَكُوْنُوا مُعْرُوْفِيْنَ الأعْيَانَ عِنْدَ أمِيْرِ المؤمِنِيْنَ عَليِّ بنِ أبي طَالِبٍ رَضِيَ الله عَنْهُ، ولا قَامَتْ شَهَادَةٌ عَلَيْهِم تَدْعُوا بِقَتْلِهِم .
رَابِعًا : أنَّ قَتَلَةَ عُثْمَانَ مِنْ أهْلِ الفِتْنَةِ لا يَزَالُوْنَ في تَمْكِيْنٍ واسْتِيْلاءٍ على بَعْضِ الأمُوْرِ، وكَذَلِكَ لَهُم عَدَدٌ وأعْوَانٌ حِيْنَذَاكَ يُخْشَى مِنْ مُطَالَبَتِهِم، في وَقْتٍ يَرَى فِيْهِ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنْ تَجْتَمِعَ الكَلَمِةُ، وتأتَلِفَ القُلُوْبُ، ويَسُوْدَ الأمْنُ، وتَنْتَظِمَ الأمُورُ، ومِنْ ثَمَّ تَتَبَيَّنُ وتَنْكَشِفُ الغُمَّةُ ويَتَعَرَّ القَتَلَةُ مِنْ أعْوَانِهِم وعَدَدِهِم، وتُقَامُ الحُدُوْدُ الشَّرْعِيَّةُ فِيْهِم وفي غَيْرِهِم، واللهُ أعْلَمُ.
* * *
يَقُوْلُ القَاضِي أبُو يَعْلَى رَحِمَهُ الله (458) في كِتَابِهِ «تَنْزِيْهِ خَالِ المُؤْمِنِيْنَ مُعَاوِيَةَ بنِ أبي سُفْيانَ»( (85) : «ووَجْهُ اجْتِهَادِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في الامْتِنَاعِ؛ أشْيَاءٌ :
أحَدُهَا : أنَّهُ لم يَعْرِفْهُم بأعْيَانِهِم، ولا أقَامَتْ شَهَادَةٌ عَلَيْهِم بِقَتْلِهِم، وقَدْ كَانَ كَثِيْرًا ما يَقُوْلُ : مَنْ قَتَلَ عُثْمَانَ فَلْيَقُمْ؟ فَيَقُوْمُ أرْبَعَةُ آلافِ مُقَنَّعٍ ـ أي مُلْبَسٌ بالحَدِيْدِ ـ وقِيْلَ أكْثَرُ!
والثَّاني : لَوْ عَرَفَهُم بأعْيَانِهِم وخَافَ قَتْلَ نفْسِهِ، وفِتْنَةً في الأمَّةِ تَؤُوْلُ إلى إِضْعَافِ الدِّيْنِ وتَعْطِيْلِ الحُدُوْدِ كَانَ الكَفُّ عَنْ ذَلِكَ إلى وَقْتِ انْحِسَامِ الفِتْنَةِ وزَوَالِ الخَوْفِ، وهَذِهِ حَالُ عَلِيٍّ في أتْبَاعِهِ؛ مِثْلُ : الأشْتَرِ، والأشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، والأمَرَاءِ، وأصْحَابِ الرَّايَاتِ، وكَثْرَةِ اخْتِلافِهِم (إلى أنْ قَالَ) ولَوْلا ما أخَذَ اللهُ تَعَالى مِنَ المِيْثَاقِ على العُلَمَاءِ؛ لَكَانَ تَرْكُ الكَلامِ في ذَلِكَ والإمْسَاكُ عَمَّا جَرَى بَيْنَهُم أولى؛ لأنَّ هَذِهِ طَرِيْقَةُ أئمَّةِ المُسْلِمِيْنَ» انْتَهَى .
ويَقُوْلُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ في «مِنْهَاجِ السُّنةِ» (6/339) : «وأمَّا الحَرْبُ الَّتي كَانَتْ بَيْنَ طَلْحَةَ وبَيْنَ عَلِيٍّ فَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يُقَاتِلُ عَنْ نَفْسِهِ ظَانًّا أنَّهُ يَدْفَعُ صَوْلَ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، لم يَكُنْ لِعَلِيٍّ غَرَضٌ في قِتَالِهِم، ولا لَهُم غَرَضٌ في قِتَالِهِ؛ بَلْ كَانُوا قَبْلَ قُدُوْمِ عَلِيٍّ يَطْلُبُونَ قَتَلَةَ عُثْمَانَ، وكَانَ مِنَ القَتَلَةِ مِنْ قَبَائِلِهِم مَنْ يَدْفَعُ عَنْهُم، فَلَم يَتَمَكَّنُوا مِنْهُم، فلَمَّا قَدِمَ عَلِيٌّ وعَرَّفُوْهُ مَقْصُودَهُم، عَرَّفَهُم أنَّ هَذَا أيْضًا رَأيُهُ، لَكِنْ لا يَتَمَكَّنُ حَتَّى ينْتَظِمَ الأمْرُ .
فَلَمَّا عَلِمَ بَعْضُ القَتَلَةِ ذَلِكَ، حَمَلَ عَلَى أحَدِ العَسْكَرَيْنِ، فَظَنَّ الآخَرُوْنَ أنَّهُم بَدَأُوا بالْقِتَالِ، فَوَقَعَ القِتَالُ بِقَصْدِ أهْلِ الفِتْنَةِ، لا بِقَصْدِ السَّابِقِيْنَ الأوَّلِيْنَ» انْتَهَى .
* * *
الأمْرُ الثَّالِثُ : وُجُوْبُ السُّكُوْتِ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم .
فَقَدْ أجْمَعَ أهْلُ السُّنَّةِ قَاطِبَةً على الكَفِّ والإمْسَاكِ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، والسُّكُوتِ عَمَّا حَصَلَ بَيْنَهُم مِنْ قِتَالٍ وحُرُوبٍ، وعَدَمِ البَحْثِ والتَّنْقِيْبِ والتَّنْقِيْرِ عَنْ أخْبَارِهِم أو نَشْرِها بَيْنَ العَامَّةِ .
وكَذَلِكَ بَيْنَ آحَادِ العُلَمَاءِ لِمَا لَهَا أثَرٌ سَيِّئٌ في إثَارَةِ الفِتْنَةِ والضَّغَائِنِ، وإيْغَارِ الصُّدُوْرِ عَلَيْهِم، وسُوْءِ الظَّنِّ بِهِم ممَّا يُقَلِّلُ الثِّقَةَ بِهِم!
وسَيأتي الحَدِيْثُ عَنِ السُّكُوْتِ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِي اللهُ عَنْهُم في بَابٍ مُسْتَقِلٍ إنْ شَاءَ اللهُ .
* * *
وبَعْدَ أنْ تَقَرَّرَتْ لَدَيْنَا هَذِهِ الأمُوْرُ الثَّلاثَةُ الَّتي غَدَتْ وللهِ الحَمْدُ عُمْدَةً عِنْدَ أهْلِ السُّنَّةِ، وعَقِيْدَةً عِنْدَ سَائِرِ الأمَّةِ؛ كَانَ مِنَ الخَطَأ الكَبِيْرِ والشَّرِّ المُسْتَطِيْرِ مُخَالَفَتُها، أو مُنَاقَشَتُها بِوَجْهٍ أو آخَرَ .
وهذا مقال مستل من كتاب
تسديد الإصابة فيما
شجر بين الصحابة
ص 89
للشيخ الدكتور/ ذياب بن سعد الغامدي
([1]) انْظُرْ : «الأُمَمَ والمُلُوْكَ» للطَّبَريِّ (4/365 ومَا بَعْدَهَا)، و«الكَامِلَ» لابنِ الأثِيْرِ (3/178)، و«البِدَايَةَ والنِّهايَةَ» لابنِ كَثِيْرٍ (7/186) .
([2]) ومِنَ الأُمُوْرِ المُشَاهَدةِ الَّتِي تَزِيْدُ أهْلَ السُّنةِ يَقِيْنًا إلى يَقِيْنِهِم، وتَزِيْدُ الشِّيْعَةَ غَيْضًا إلى غَيْضِهِم ـ أنَّ الشِّيعةَ مُنْذُ أنْ عَرَفَهُم التَّارِيْخُ وهُم يَرْجَعُوْنَ عَنْ تَشَيُّعِهِم وباطِلِهم مُتَزَمِّلِيْنَ دِثارِ السُّنَّةِ! ولا أقُوْلُ عَنْ عامَّتِهم؛ بَلْ هُوَ مَشْهُوْرٌ عِنْدَ رُؤوسِهِم وكُبَرائِهِم (عُلَمَائِهم!)، حَيْثُ نَرَاهُم يَتَرَاجَعُوْنَ وُحْدانًا وزَرَافاتٍ، وهُمْ مَعَ هَذَا لا يَكْتَفُوْنَ بالتَّوْبةِ عمَّا كَانُوا فِيْهِ مِنَ تَخْرِيْفٍ وضَلالٍ؛ بَلْ يَصِيْحُوْنَ ببَاطِلِ الشِّيعَةِ وبَيَانِ ضَلالِهِم، وكَشْفِ خُرَافاتِهِم ...!، وفي المُقابِلِ لَمْ نَسْمَعْ (وللهِ الحَمْدُ) أحَدًا مِنْ عُلَماءِ السُّنَّةِ أو طُلابِ العِلْمِ ارْتدَّ عَنْ سُنِّيَّتِهِ إلى التَّشيُّعِ!
ومِنْ بَشَائِرِ اليَقِيْنِ هَذِهِ الأيَّامَ؛ مَا قَامَ بِهِ الشَّيْخُ المُلْهَمُ أسَدُ السُّنَّةِ : عَدْنَانُ العَرْعُوْرُ حَفِظَهُ الله مِنْ مُنَاظَرَاتٍ مَعَ كَثِيْرٍ مِنْ عُلَمَاءِ الشِّيْعَةِ؛ حَيْثُ كَشَفَ لأبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ كَثِيْرًا مِنْ ضَلالاتِ الشِّيْعَةِ، وأظْهَرَ خَبَايَا عَقَائِدِهِم البَاطِنِيَّةِ الفَاسِدَةِ، في الوَقْتِ الَّذِي أبَانَ فِيْهِ أيْضًا حَقِيْقَةَ التَّشَيُّعِ عِنْدَ عَامَّةِ أهْلِ السُّنَّةِ، الأمْرُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الطَّرِيْقَ أمَامَ دُعَاةِ التَّقْرِيْبِ، فجَزَاهُ الله عَنِ الإسْلامِ والمُسْلِمِيْنَ خَيْرَ الجَزَاءِ!
([3]) انْظُرْ : «الأُمَمَ والمُلُوْكَ» للطَّبَريِّ (4/462)، و« الكَامِلَ » لابنِ الأثِيْرِ (3/212 و 286)، و«البِدَايَةَ والنِّهايَةَ» لابنِ كَثِيْرٍ (7/251)، و(281) .
([4]) «مِنْهَاجُ السُّنةِ» لابنِ تَيْمِيَّةَ (6/328) .
([5]) ومَعْنَى خَالِ المُؤمِنِيْنَ : أي أنَّه أخُو أمِّ الُمؤمِنِيْنَ حَبِيْبَةَ بنتِ أبي سُفْيَان زَوْجِ النَّبيِّ e .
|
|
|
|
|