تاريخ الاحتلال اليهودي لفلسطين.
|
|
|
تَارِيخُ الاحْتِلالِ اليَهُودِيِّ لِفِلِسْطِينَ
لَم يَعُدِ الاحْتِلالُ اليَهُودِيُّ يَخْفَى على ذِي عَينٍ، ابْتِدَاءً بالتَهْجِيرِ، وانْتِهَاءً بالاحْتِلالِ الغَاشِمِ؛ إلَّا أنَّنَا آثَرْنا الحَدِيثَ عَنْ ذَلِكَ باخْتِصَارٍ، مَعَ ذِكْرِ نُبْذَةٍ تارِيخِيَّةٍ مُوجَزَةٍ إتْمَامًا لِلفَائِدَةِ، ورَبْطًا لِمَضْمُونِ الرِّسَالَةِ.
التَمْهِيدُ لإنْشَاءِ مَوطِنٍ لِليَهُودِ:
مَعَ نِهَايَاتِ القَرْنِ الثَّالِثَ عَشَرَ الهِجْرِيِّ، بَدَأتِ الحَرَكَةُ الصِّهْيُونِيَّةُ اليَهُودِيَّةُ في أورُوبَّا تَدْعُو إلى ضَرُورَةِ إيجَادِ مُجْتَمَعٍ يَهُودِيٍّ يَحْكُمُ نَفْسَهُ، ومِنْ هُنَا اخْتَارَتِ الحَرَكَةُ اليَهُودِيَّةُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ المَكَانُ هُوَ فِلِسْطِينُ، وهُوَ مَا دَعَى إلَيهِ اليَهُودِيُّ «هِرْتِزْل» مُؤسِّسُ دَولَةِ اليَهُودِ في أرْضِ فِلِسْطِينَ!
وقَبْلَ هَذَا الاخْتِيَارِ الظَّالمِ لفِلِسْطِينَ؛ كَانَ مِنَ المَعْلُومِ لَدَى الجَمِيعِ أنَّ فِلِسْطِينَ لم تَكُنِ المُرَشَّحَةَ بأنْ تَكُونَ الوَطَنَ القَومِيَّ لليَهُودِ، بَلْ رُشِّحَتْ قَبْلَهَا عِدَّةُ أقْطَارٍ في إفْرِيقِيَا، وأمْرِيكَا الشَّمالِيَّةِ، وغَيرِهَا مِنْ أقْطَارٍ أُخْرَى!
فَقَدْ حَاوَلَ «هِرْتِزلْ»، وزُمَلاؤهُ «مَاكَسْ نُوردُو»، و«حَايِيم»، و«زِيمَان»: الحُصُولَ على مَكَانٍ في «مُوزَنْبِيق»، ثُمَّ في «الكُنْغُو» البَلْجِيكِيِّ.
كَما رُشِّحَتْ الأرْجَنْتِينُ عَامَ (1213هـ ـ 1798م)، و«قُبْرُصُ» عَامَ (1319هـ ـ 1901م)، و«سِينَاءُ» عَامَ (1320هـ ـ 1902م)، ثُمَّ «أُوغَنْدَا» مَرَّةً أُخْرَى عَامَ (1321هـ ـ 1903م)، بِنَاءً على اقْتِرَاحِ الحُكُومَةِ البِرِيطَانِيَّةِ.
ومَعَ هَذِهِ المُحَاوَلاتِ الَّتِي بَذَلَهَا «هِرْتِزْل» في الحُصُولِ على مَكَانٍ لدَولَةِ اليَهُودِ؛ إلَّا أنَّهُ لم يَجِدْ اهْتِمَامًا بَالِغًا لفِكْرَتِهِ عِندَ أكْثَرِ اليَهُودِ، لأنَّ اليَهُودَ في العَالمِ لم تَرُقْ لهُم فِكْرَةُ دَولَةٍ يَهُودِيَّةٍ سِيَاسِيَّةٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ المُمَانَعَةُ لأسْبَابٍ دِينِيَّةٍ يَهُودِيَّةٍ، أو لأنَّهُم لم يَكُونُوا رَاغِبِينَ في النُّزُوحِ عَنِ البِلادِ الَّتِي اسْتَقَرُّوا فِيهَا، بَلْ إنَّ مُؤتَمرَ الحَاخَامَاتِ الَّذِي عُقِدَ في مَدِينَةِ «فِيلادْلِفْيَا» في أمْرِيكَا في أوَاخِرِ القَرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ (أي الرَّابِعَ عَشَرَ هِجْرِي) أصْدَرَ بَيَانًا يَقُولُ: إنَّ الرِّسَالَةَ الرُّوحِيَّةَ الَّتِي يَحْمِلُهَا اليَهُودُ تَتَنَافَى مَعَ إقَامَةِ وِحْدَةٍ سِيَاسِيَّةٍ يَهُودِيَّةٍ مُنْفَصِلَةٍ.
«ولَيسَ بخَافٍ على اليَهُودِ، ولا على المُطَّلِعِينَ على الحَرَكَةِ الصِّهيُونِيَّةِ الحَدِيثَةِ: أنَّ جَمَاعَاتٍ وزَعَامَاتٍ يَهُودِيَّةً (دِينِيَّةً وفِكْرِيَّةً) تَرْفُضُ قِيَامَ دَولَةٍ يَهُودِيَّةٍ مُتَمَيِّزَةٍ، بَلْ تَعْكِسُ النُّبُوءَاتُ التَّورَاتِيَّةُ على أهْلِهَا، وتَقُولُ: إنَّ قِيَامَ هَذِهِ الدَّولَةِ هُوَ نَذِيرُ الهَلاكِ والفَنَاءِ لليَهُودِ، ولهَا على ذَلِكَ أدِلَّةٌ وشَوَاهِدُ مِنَ الأسْفَارِ والمَزَامِيرِ، ومِنْ وَاقِعِ التَّارِيخِ». انْظُرْ «القُدْسَ بَينَ الوَعْدِ الحَقِّ..» لشَيخِنَا العَلَّامَةِ سَفَرٍ الحَواليِّ (12).
وإزَاءَ هَذَا المَوقِفِ، فَكَّرَ الصِّهْيُونيُّ الحَاقِدُ «هِرْتِزْل» في طَرِيقَةٍ يُوَاجِهُ بها هَذَا الوَضْعَ، فَعِنْدَئِذٍ دَفَعَهُ تَفْكِيرُهُ إلى أنْ يُحَوِّلَ المَوضُوعَ إلى قَضِيَّةٍ دِينِيَّةٍ يُلْهِبُ بِها عَوَاطِفَ جَماهِيرِ اليَهُودِ، ورَأى أنَّ فِلِسْطِينَ هِيَ المَكَانُ الوَحِيدُ الَّذِي يُنَاسِبُ هَذِهِ الدَّعْوَةَ الجَدِيدَةَ، ولاسِيَّما أنَّ لليَهُودِ بفِلِسْطِينَ عَلائِقَ تَارِيخِيَّةً، ولهُم فِيهَا مُقَدَّسَاتٌ دِينِيَّةٌ، ومِنْ هُنَا ارْتَفَعَتْ رَايَةُ الدِّينِ على سَارِيَةِ المَشْرُوعِ، والتَهَبَتِ العَوَاطِفُ بين قُطْعَانِ اليَهُودِ.
فَعِنْدَئِذٍ انْتَصَرَ رَأيُ «هِرْتِزْل»، وتَحَقَّقَ لَهُ مَا أرَادَ مِنْ إقَامَةِ دَولَةٍ لليَهُودِ، وذَلِكَ كَانَ بَعْدَ وَفَاتِهِ؛ حَيثُ احْتَضَنَ المُؤتمَرُ اليَهُودِيُّ العَالميُّ فِكْرَةَ الوَطَنِ اليَهُودِيِّ في فِلِسْطِينَ عَامَ (1323هـ ـ 1905م)، أي بَعْدَ مَوتِهِ بسَنَةٍ!
* * *
وعَلَيهِ؛ فَقَدْ نَادَتِ الحَرَكَةُ الصِّهْيُونِيَّةُ اليَهُودِيَّةُ في أورُوبَّا برِئَاسَةِ «هِرتِزْل» بِحَلِّ المُشْكُلِةِ اليَهُودِيَّةِ عَنْ طَرِيقِ دَفْعِ يَهُودِ أورُوبَّا الشَّرْقِيَّةِ لِلهِجْرَةِ إلى فِلِسْطِينَ.
وفي الوَقْتِ الَّذِي أخَذَتْ فِيهِ أعْدَادُ اليَهُودِ في فِلِسْطِينَ تَتَنَاقَصُ خِلالَ فَتْرَةِ الحَرْبِ العَالَمِيَّةِ الأُولَى (1332ـ1336)، تَبَنَّتْ بِرِيطَانِيَا دَعْمَ المَشْرُوعِ الصِّهْيُونِيِّ اليَهُودِيِّ مُقَابِلَ تَمْوِيلِ اليَهُودِ لَهَا، ومُسَاعَدَتِها رِجَالًا ومَالًا؛ حَتَّى تَصْمُدَ في الحَرْبِ الثَّائِرَةِ.
وقَدْ أصْدَرَ وَزِيرُ الخَارِجِيَّةِ البِرِيطَانِيُّ، «آرْثَرْ جِيمِسْ بِلْفُور» وَعْدَهُ المُفْتَرَى في عَامِ (2 نُوفَمْبَر 1917م ـ 17/1/1336هـ) إلى اللُّورد «لِيُونِيل وُولْتِر دِي رُوتْشِيلد» يُشِيرُ فِيهِ إلى تَأيِيدِ وتَحْقِيقِ وَطَنٍ قَومِيٍّ لِلْيَهُودِ في فِلِسْطِينَ، ووَافَقَ مَجْلِسُ الحُلَفَاءِ على وَضْعِ فِلِسْطِينَ تَحْتَ الانْتِدَابِ البِرِيطَانِيِّ، واعْتَرَفَتْ عُصْبَةُ الأمَمِ بِذَلِكَ، وصَدَّقَتْ على وَعْدِ «بِلْفُور».
وهَذَا نَصُّ وَثِيقَةِ وَعْدِ «بِلْفُور» المُفْتَرَى:
«وَزَارَةُ الخَارِجِيَّةُ: في الثَّاني مَنْ نُوفَمْبَر/ تِشْرِين الثَّاني سَنَةَ (1917).
عَزِيزِي اللُّورد رُوتْشِيلْد:
يَسُرُّني جِدًّا أنْ أُبْلِغَكُم بالنِّيَابَةِ عَنْ حَكُومَة جَلالَتِهِ، التَّصْرِيحَ التَّالي الَّذِي يَنْطَوِي على العَطْفِ على أمَاني اليَهُودِ والصِّهْيُونِيَّةِ، وقَدْ عُرِضَ على الوَزَارَةِ، وأقَرَّتْهُ:
«إنَّ حَكُومَةَ صَاحِبِ الجَلالَةِ تَنْظُرُ بعَينِ العَطْفِ إلى تَأسِيسِ وَطَنٍ قَومِيٍّ للشَّعْبِ اليَهُودِيِّ في فِلِسْطِينَ، وسَتَبْذُلُ غَايَةَ جُهْدِهَا لتَسْهِيلِ تَحْقِيقِ هَذِهِ الغَايَةِ، على أنْ يُفْهَمَ جَلِيًّا أنَّهُ لَنْ يُؤتَى بعَمَلٍ مِنْ شَأنِهِ أنْ يَنْتَقِصَ مِنَ الحُقُوقِ المَدَنِيَّةِ والدِّينِيَّةِ الَّتِي تَتَمَتَّعُ بِهَا الطَّوائِفُ غَيرُ اليَهُودِيَّةِ المُقِيمَةِ الآنَ في فِلِسْطِينَ، ولا الحُقُوقِ، أو الوَضْعِ السِّيَاسي الَّذِي يَتَمَتَّعُ بِهِ اليَهُودُ في البُلْدَانِ الأُخْرَى» انْتَهَى.
وقَدْ أيَّدَتْ أيضًا هَذَا الوَعْدَ المُفْتَرَى أمْرِيكَا، وفَرَنْسَا، وإيطَالِيَا، وغَيرُهَا مِنْ الدُّوَلِ النَّصْرَانِيَّةِ والوَثَنِيَّةِ على حَدٍّ سَوَاء.
وقَدْ مَكَّنَتْ بِرِيطَانِيَا لهَذَا الوَعْدِ المُفْتَرَى مِنْ خِلالِ اسْتِغْلالِ سِيَادَةِ وُجُودِهَا لِتَنْفِيذِ وَعْدِهَا بِتَهْوِيدِ فِلِسْطِينَ، فَعَيَّنَتْ في مَنْصِبِ المَنْدُوبِ البِرِيطَانِيِّ في فِلِسْطِينَ أحَدَ القَادَةِ اليَهُودِ، وهُوَ «هِرْبَرْت صُمُوئِيل»، وقَدِ اطَّلَعَ «صُمُوئِيل» بِمُهِمَّةِ إعْطَاءِ الصِّيغَةِ الرَّسْمِيَّةِ لِلْوَكَالَةِ اليَهُودِيَّةِ، وأشْرَكَهَا في صِيَاغَةِ القَوَانِينِ، واللَّوَائِحِ، والأنْظِمَةِ الأُولى الَّتِي سَهَّلَتِ الهِجْرَةَ اليَهُودِيَّةَ، ومَكَّنَتِ اليَهُودَ مِنْ تَمَلُّكِ الأرَاضِي، ومَنَحَتْهُم امْتِيَازَاتٍ مَالِيَّةً تِجَارِيَّةً (اقْتِصَادِيَّةً!) جَعَلَتْهُم يُسَيطِرُونَ بالتَّدْرِيجِ على اقْتِصَادِ البِلادِ، ويُعْرِّضُونَ تِجَارَةَ (اقْتِصَادَ!) العَرَبِ المَاليّ لِلْخَطَرِ؛ حَتَّى يُزَعْزِعُوا تَمَسُّكَهُم بالأرْضِ؛ تَمْهِيدًا لِلاسْتِيلاءِ عَلَيهَا.
ومَكَّنَ الَمنْدُوبُ البِرِيطَانِيُّ أيضًا: الوَكَالَةَ اليَهُودِيَّةَ مِنَ الاشْتِرَاكِ في إدَارَةِ البِلادِ، والقِيَامِ بِتَنْظِيمِ اليَهُودِ، وتَسْلِيحِهِم، وتَدْرِيبِهِم، وتَشْكِيلِ العِصَابَاتِ اليَهُودِيَّةِ الحَاقِدَةِ.
وفي عَامِ (1366)، رَفَعَتْ بِرِيطَانِيَا المُشْكِلَةَ الَّتِي صَنَعَتْهَا بِيَدِهَا إلى الأُمُمِ المُتَّحِدَةِ، وذَلِكَ على أسَاسِ أنَّ حُكُومَةَ الانْتِدَابِ عَجَزَتْ عَنْ حَلِّ مُشْكِلَةِ الشَّعْبَينِ (الأوَّلِ الَّذِي انْتَدَبَتْهُ عُصْبَةُ الأمَمِ لِحُكْمِهَا، والثَّانِي الَّذِي أوجَدَتْهُ بَعْدَ انْتِدَابِهَا)، وأعْلَنَتْ بِرِيطَانِيَا أنَّها سَتَتَخَلَّى عَنِ انْتِدَابِها لِفِلِسْطِينَ في غُضُونِ سِتَّةِ أشْهُرٍ!
* * *
إنْشَاءُ مَوطِنِ يَهُودَ:
صَدَرَ قَرَارُ الجَمْعِيَّةِ العُمُومِيَّةِ لِلأُمَمِ المُتَّحِدَةِ في عَامِ (1366): بِتَقْسِيمِ فِلِسْطِينَ إلى دَولَتَينِ (عَرَبِيَّةٍ، ويَهُودِيَّةٍ)، ووُضِعَ بَيتُ المَقْدِسِ ومَا حَولَهُ تَحْتَ الإدَارَةِ الدُّوَلِيَّةِ ـ زَعَمُوا! ـ.
وتَحْتَ ضَغْطِ الوِلايَاتِ المُتَّحِدَةِ الأمْرِيكِيَّةِ، وافَقَتْ مَا تُسَمَّى: «بهَيئَةِ الأُمَمِ» بأغْلَبِيَّةِ الأصْوَاتِ على قَرَارِ التَّقْسِيمِ، وذَلِكَ في عَامِ (1366).
إلَّا أنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ الجَائِرَ لم يَقِفْ عِنْدَ اعْتِرَافِ الدُّوَلِ الكَافِرَةِ، بَلْ كَانَ مِنَ المُؤسِفِ بمَكَانٍ أنَّ أكْثَرَ الدُّوَلِ العَرَبِيَّةِ والإسْلامِيَّةِ وغَيرِهَا قَدْ وَافَقَتْ على قَرَارِ هَذَا التَّقْسِيمِ، بَلْ أقَرَّتْ على الوُجُودِ اليَهُودِيِّ في أرْضِ فِلِسْطِينَ، غَيرَ أنَّ هُنَاكَ بَعْضَ الدُّوَلِ الإسْلامِيَّةِ رَفَضَتْ قَرَارَ التَّقْسِيمِ مِنْهَا: مِصْرُ، وبِلادُ الحَرَمِينَ، واليَمَنُ، وسُورِيَةُ، ولِبْنَانُ، والعِرَاقُ، وإيرَانُ، وأفْغَانِسْتَانُ، وبَاكِسْتَانُ، وتُرْكِيَا، والهِنْدُ، واليُونَانُ، وكُوبَا.
إلَّا أنَّ أمْرِيكَا النَّصْرَانِيَّةَ لمَّا أدْرَكَتْ أنَّ الدُّوَلَ العَرَبِيَّةَ والإسْلامِيَّةَ تَكَتَّلَتْ ضِدَّ التَّقْسِيمِ، طَالَبَتْ بتَأجِيلِ الاجْتِماعِ إلى ما بَعْدَ عِيدِ «الشُّكْرِ!» الَّذِي سَيَكُونُ في اليَومِ التَّالي مِنَ الاجْتِمَاعِ.
قَالَتْ جَرِيدَةُ «نِيُويُورْك تَايمِزْ» (14/1/1367هـ ـ 27 نُوفَمْبَر 1947): «أجَّلَتِ الجَمْعِيَّةُ العَامَّةُ للأُمَمِ المُتَّحِدَةِ جَلْسَتَهَا الَّتِي تُصَوِّتُ بهَا على تَقْسِيمِ فِلِسْطِينَ أمْسِ بَعْدَ أنْ وَجَدَ مُؤيِّدُو الصِّهْيُونِيَّةِ أنَّهُم لا يَضْمَنُونَ ثُلُثَي الأصْوَاتِ اللَّازِمَةِ لنَجَاحِ المَشْرُوعِ، وفي يَومِ التَّأجِيلِ كَانَتْ أمْرِيكَا بضَغْطِهَا قَدِ اسْتِطَاعَتْ أنْ تَشْتَري قَهْرًا ثَلاثَةَ أصْوَاتٍ: صَوتَ هَايتِي، ولِيبِيرِيَا، وسِيَامِ، ليَفُوزَ المَشْرُوعُ العُدْوانيُّ بالأغْلِبِيَّةِ».
* * *
وقَدْ أدَّى ذَلِكَ التَّقْسِيمُ إلى تَفَجُّرِ الاضْطِرَابَاتِ بَينَ المُسْلِمِينَ الفِلِسْطِينِيِّينَ العُزَّلِ مِنَ السِّلاحِ، وغَيرِ الُمدَرَّبِينَ عَسْكَرِيًّا مِنْ نَاحِيَةٍ، وبَينَ العِصَابَاتِ اليَهُودِيَّةِ المُدَرَّبَةِ والمُسَلَّحَةِ، وذَاتِ المَوَارِدِ، والدَّعْمِ الدَّاخِلِيِّ والخَارِجِيِّ مِن ناحِيَةٍ أُخْرَى!
فَعِنْدَئِذٍ قَرَّرَتِ الحَكُومَاتُ العَرَبِيَّةُ تَحْرِيكَ جُيُوشِهَا إلى فِلِسْطِينَ لتَحْرِيرِهَا، وعَيَّنَتْ لهَا قَائِدًا عَامًّا: هُوَ أمِيرُ مَكَّةَ، المَلِكُ عَبْدُ اللهِ بنُ الشَّرِيفِ الحُسَينِ، وهُوَ أمِيرُ مَكَّةَ، وصَاحِبُ مَا سُمِّى بالثَّورَةِ العَربِيَّةِ الكُبْرَى الَّتِي تَرَتَّبَ عَلَيهَا احْتِلالُ أورُوبَّا (الإنْجِلِيزِ، والفَرَنْسِيِّينَ وغَيرِهِمِ) للعَالمِ العَرَبيِّ!
وكَانَ عَدَدُ الجُيُوشِ العَرَبِيَّةِ حَوَالي عِشْرِينَ ألْفَ جُنْدِيٍّ، يُعَانُونَ ضَعْفًا في التَّدْرِيبِ، وقِلَّةً في السِّلاحِ، وجَهْلًا بطَبِيعَةِ الأرْضِ الَّتِي سَيُقَاتِلُونَ عَلَيهَا، وبالعَدُوِّ الَّذِي سَيُقَاتِلُونَهُ؛ يُضَافُ إلى ذَلِكَ ضَعْفٌ في الإيمانِ!
هَذِهِ الجُيُوشُ كَانَ يُعَاوِنُها (1300) مُجَاهِدٍ على أرْضِ فِلِسْطِينَ، وفي المُقَابِلِ كَانَ اليَهُودُ ـ بِمُعَاوَنَةِ الإنْجِلِيزِ ـ قَدْ أعَدُّوا قُوَّةً عَسْكَرِيَّةً مُكَوَّنَةً مِنْ أرْبَعِينَ ألْفَ جُنْدِيٍّ يَهُودِيٍّ يُسَاعِدُهُم خَمْسُونَ ألْفًا مِنَ المِيلِيشِيَّاتِ اليَهُودِيَّةِ، يَتَمَيَّزُونَ بمَعْرِفَتِهِم بالأرْضِ الَّتِي يُحَارِبُونَ عَلَيهَا ومِنْ أجْلِهَا، وبالتَّدْرِيبِ الجَيِّدِ والتَّسْلِيحِ الكَامِلِ؛ مَعَ تَفَوُّقٍ في النَّاحِيَةِ القِتَالِيَّةِ والنِّظَامِيَّةِ، والخِبْرَةِ العَسْكَرِيَّةِ، وكَذَلِكَ مِنْ نَاحِيَةِ السِّلاحِ والذَّخِيرَةِ، وكَانَ لَدَيهِم احْتِيَاطِيٌّ مِنَ الجُنُودِ، يَبْلُغُ (185) ألْفًا يَتَزَايَدُونَ باسْتِمْرَارٍ؛ نَتِيجَةَ تَدَفُّقِ الجُنُودِ المُدَرَّبِينَ مِنْ كُلِّ بِلادِ أورُوبًّا الشَّرقِيَّةِ. انْظُرْ: «الطَّرِيقَ إلى بَيتِ المَقْدِسِ» (277 ،292).
* * *
الخِيَانَةُ الكُبْرَى:
ومِنَ الخِزْي والعَارِ إذَا عَلِمَ المُسْلِمُونَ جَمِيعًا: أنَّ القِيَادَةَ العَامَّةَ الَّتِي تَوَلَّاهَا المَلِكُ عَبْدُ اللهِ بنُ الشَّرِيفِ حُسَينٍ كَانَتْ تَحْتَ القَائِدِ «جُلُوب» بَاشَا الإنْجِلِيزِيِّ، وهُوَ القَائِدُ النَّصْرَانيُّ المَعْرُوفُ الَّذِي كَانَ يَقُودُ جَيشًا عَاوَنَ في التَّمْكِينِ لليَهُودِ على أرْضِ فِلِسْطِينَ بَعْدَ إبَادَةِ وتَشْرِيدِ مُعْظَمِ شَعْبِهَا!
وبِذَلِكَ كَانَتِ الأوَامِرُ العَسكَرِيَّةُ الَّتِي تَصْدُرُ باسْمِ القَائِدِ العَامِ المَلِكِ عَبْدِ اللهِ إنَّما يَضَعُهَا، ويُنَفِّذُهَا القَائِدُ البِرِيطَانيُّ في الجَيشِ العَرَبيِّ، بَلْ إنَّ حَوَادِثَ عَدِيدَةً بَرْهَنَتْ على أنَّ «جُلُوب» القَائِدَ البِرِيطَانيَّ للجَيشِ العَرَبيِّ، إنَّما كَانَ يَقُودُ هَذَا الجَيشَ ليُقِيمَ دَولَةً يَهُودِيَّةً، ويَكْشِفَ أجْنِحَةَ الجُيُوشِ العَرَبِيَّةِ الأُخْرَى؛ حَتَّى تَشْفِى غِلَّ بِرِيطَانِيَا الحَاقِدَةِ!
وحَتَّى «اللَّدُ» و«الرَّمْلَةُ» الَّتِي تَضَمَّنَهَا قَرَارُ التَّقْسِيمِ ضِمْنَ الدُّوَلِ العَرَبِيَّةِ، تَخلَّى عَنْهُمَا «جُلُوبْ»، وسَحَبَ مِنْهُما جَيشَهُ العَرَبيَّ، وتَرَكَهُما ليَتَصَارَعَ فِيهِما أبْنَاءُ فِلِسْطِينَ العُزَّلُ مَعَ قُوَّاتِ اليَهُودِ المُدَرَّبَةِ المُسَلَّحَةِ؛ بَلْ إنَّ غَالِبَ قِيَادَاتِ الكَتَائِبِ، وألْوِيَةِ الجَيشِ الأرْدُنيِّ الزَّاحِفِ على فِلِسْطِينَ؛ كَانَتْ خَاضِعَةً لقِيَادَةٍ بِرِيطَانِيَّةٍ صِرْفَةٍ؛ حَتَّى كَأنَّها كَتَائِبُ بِرِيطَانِيَّةٌ، ومِنْ عَجَبٍ أنَّ تَدَخُلَ الجُيُوشُ العَرَبِيَّةُ مَعْرَكَةً مَصِيرِيَّةً، وجَيشُ القِيَادَةِ يَقُودُهُ بِرِيطَانِيُّونَ سَعَوا للتَّهْوِيدِ، وعَمِلُوا للتَّقْسِيمِ، ومِنْ هُنَا كَانَ وَلاءُ القَائِدِ العَامِ لمِنِ اغْتَصَبُوا فِلِسْطِينَ، وعَمِلُوا على تَهْوِيدِهَا.
وأخْطَرُ مِنَ ذَلِكَ، وأشَدُّهُ: هُوَ مَا نَشَرَهُ القَائِدُ البِرِيطَانيُّ «جُلُوبْ» في مُذَكِّرَاتِهِ الَّتِي تَدُلُّ على الخِيَانَةِ العُظْمَى الَّتِي كَانَتْ وَرَاءَ اغْتِصَابِ أرْضِ فِلِسْطِينَ.
يَقُولُ الجَنَرَالُ «جُلُوبْ» في مُذَكِّرَاتِهِ: «جُنْدِيٌّ مَعَ العَرَبِ»، وذَكَرَ فِيهَا: أجْرَى تَوفِيقُ أبُو الهُدَى بَاشَا رَئِيسُ وُزَرَاءِ الأرْدُنِ مُحَادَثَاتٍ سِرِّيَّةً مَعَ «أرْنِسْت بِيفِن» وزَيِرِ خَارِجِيَّةِ بِرِيطَانِيَا في (1367هـ ـ فِبْرَايِر 1948م)، ويَقْتَرِحُ (قَبْلَ دُخُولِ الجُيُوشِ العَرَبِيَّةِ المَعْرَكَةَ): أنْ يَدْخُلَ الجَيشُ الأُرْدُنيُّ في فِلِسْطِينَ غَدَاةَ انْتِهَاءِ الانْتِدَابِ؛ تَحْتَ شِعَارِ حمَايَةِ فِلِسْطِينَ كُلِّهَا، ومُحَارَبَةِ اليَهُودِ، وأنْ يَحْتَلَّ القِسْمَ العَرَبيَّ، ويَضُمَّهُ إلى شَرْقِ الأُرْدُنِ، دُونَ أنْ يَشْتَبِكَ مَعَهُ اليَهُودُ إطْلاقًا، وتَعَهَّدَ أبُو الهُدَى بثَلاثَةِ أُمُورٍ:
ألَّا يَحْتَلَّ الجَيشُ الأُرْدُنيُّ غَزَّةَ، أو الخَلِيلَ.
ألَّا يَعْتَدِي الجَيشُ المَذْكُورُ على اليَهُودِ، بأيِّ شَكْلٍ.
ألَّا يَحْتَلَّ شِبْرًا وَاحِدًا مِنَ القِسْمِ الَّذِي صَدَرَ قَرَارُ الأُمَمِ المُتَّحِدِةِ بإعْطَائِهِ لليَهُودِ في (1367هـ ـ 29 نُوفَمْبَر 1947م).
وأضَافَ أنَّ الأرْدُنَ حَسَبَ مُعَاهَدَاتِهِ مَعَ بِرِيطَانِيَا لَنْ يَتَّخِذَ أيَّ خُطْوَةٍ إيجَابِيَّةٍ إلَّا بَعْدَ مُشَاوَرَةِ الحَكُومَةِ البِرِيطَانِيَّةِ، فَشَكَرَ «بِيفِن» أبَا الهُدَى لُوُضُوحِ مَوقِفِ الأرْدُنِ، وأعْلَنَ مُوَافَقَتَهُ على مَشْرُوعِ حَكُومَتِهِ!. انْظُرْ «جِهَادَ شَعْبِ فِلِسِطِينَ» لصَالِحٍ أبي بَصِيرٍ (395).
* * *
وانْتَهَتِ الحَرْبُ غَيرَ المُتَكَافِئَةِ بِقَتْلِ، وتَهْجِيرِ المُسْلِمِينَ، واسْتِيلاءِ العِصَاباتِ الصِّهْيَونِيَّةِ اليَهُودِيَّةِ على أرْضِ فِلِسْطِينَ المُسْلِمَةِ.
وفي (7/7/1367) انْسَحَبَتْ بِرِيطَانِيَا رَسْمِيًّا مِنْ أرْضِ فِلِسْطِينَ، وأعْلَنَ اليَهُودُ حُكْمَهُم لِلبِلادِ الَّتِي اسْتَولَوا عَلَيهَا بالْقُوَّةِ الغاشِمَةِ، وبمُعَاوَنَةِ قُوَى نَصْرَانِيَّةٍ صِلِيبِيَّةٍ جَائِرَةٍ.
نَعَم؛ فقَدْ سَاعَدَهُم البِرِيطَانِيُّونَ في الاسْتِيلاءِ على جَمِيعِ المُؤسَّسَاتِ الحُكُومِيَّةِ، ومُعَسْكَرَاتِ الجَيشِ، ومُسْتَودَعَاتِ الأسْلِحَةِ، بِمَا في ذَلِكَ الطَّائِرَاتُ، والدَّبَّاباتُ، وخُطُوطُ السِّكَكِ الحَدِيدِيَّةِ بِقِطَارَاتِهَا ومُعِدَّاتِهَا، وكَذَلِكَ المَطَارُ الدُّوَلِيُّ، والمِينَاءُ الرَئِيسِيُّ، وغَيرُ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ عَونًا لَهُم في تَحْقِيقِ بَقَائِهِم واسْتِيلائِهِم على أرْضِ فِلِسْطِينَ.
وذَلِكَ في الوَقْتِ الَّذي أعْلَنَتْ فِيهِ دُوَلُ العَالَمِ تِبَاعًا: اعْتِرَافَهَا بالسُّلْطَةِ الوَلِيدَةِ المُحْتَلَّةِ الغَاصِبَةِ فَورَ إعْلانِها في غُضُونِ دَقَائِقَ يَسِيرةٍ، وقَدْ كَانَتِ الدُّوَلُ الكُبْرَى (الظَّالمَةُ) في مُقَدَّمَةِ الدُّوَلِ المُعْتَرِفَةِ!
وبَعْدَ إحْدَى عَشَرَةَ دَقِيقَةٍ مِنَ الإعْلانِ اليَهُودِيِّ بقِيَامِ دَولَتِهِم المَزْعُومَةِ؛ تَمَّ اعْتِرَافُ رَئِيسِ الوِلايَاتِ الأمْرِيكِيَّةِ: «تُرُومَانْ» بالدَّولَةِ اليَهُودِيَّةِ التَّي تَسَمَّتْ زُورًا وبُهْتَانًا، باسْمِ نَبِيِّ اللهِ الكَرِيمِ: إسْرَائِيلَ، وهُوَ يَعْقُوبُ بنُ إسْحَاقَ بنِ إبْرَاهِيمَ عَلَيهِ، وعلى نَبِيِّنَا أفْضَلُ الصَّلاةِ والتَّسْلِيمِ!
ثُمَّ تَسَابَقَتْ كُلُّ الدُّوَلِ الأُورُوبِيَّةِ في الاعْتِرَافِ بدَولَةِ اليَهُودِ، ثُمَّ لم تَلْبَثْ أنْ أعْلَنَتْ دَولَةُ إيرَانَ، وتُرْكِيا الإسْلامِيَّتَانِ: الاعْتِرَافَ بدَولَةِ اليَهُودِ!
نَعَمْ هَكَذَا أعْلَنَتْهَا إيرَانُ بكُلِّ وَقَاحَةٍ، ودُونِ مُوَارَبَةٍ أمَامَ العَالمِ الإسْلامِيِّ في الوَقْتِ الَّذِي لم تَزَلْ إيرَانُ هَذِهِ الأيَّامَ تُجَعْجِعُ بنُصْرَةِ الإسْلامِ، وقَضَايَا المُسْلِمِينَ، فَالْوَيلُ لهُم ممَّا يَصِفُونَ، وفِيما يَقُولُونَ!
ومِنَ العَجِيبِ؛ أنَّ كَثِيرًا مِنْ حُكَّامِ العَرَبِ اليَومَ: هُمْ أكْثَرُ تَعَلُّقًا بالمُتَآمِرِينَ، وتَحَالُفًا مَعَهُم في الوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ أولَئِكَ فِيهَ أكْثَرَ إصْرَارًا على الغَدْرِ بِهِم وسَلْبِهِم!
وهَذَا نَجِدُهُ عِنْدَ تَحَالُفِهِم مَعَ أعْدَائِهِم على أنْفُسِهِم؛ حَيثُ دَخَلُوا تَحْتَ رَايَةِ المُحْتَلِّينَ لبِلادِهِم، فَكَانُوا جُزْءً مِنْ جَيشِ اللِّنْبِي، وقطِيعًا وَرَاءَ «لُورَانْس». انْظُرْ: «القُدْسَ» لشَيخِنَا سَفَرٍ الحَوَاليِّ (40).
وفي الجَانِبِ الآخَرِ؛ أعْلَنَ الفِلِسْطِينِيُّونَ المُسْلِمُونَ اسْتِنْكَارَهُم لِقَرَارِ التَّقْسِيمِ الجَائِرِ، وقَاوَمُوا العِصَابَاتِ اليَهُودِيَّةَ بِكُلِّ طَاقَتَهِم، واسْتَطَاعُوا أنْ يُحقِّقُوا انْتِصَارَاتٍ عَدِيدَةً في إيقَافِ زَحْفِ العِصَاباتِ المُدَجَّجَةِ بالسَّلاحِ؛ غَيرَ أنَّ قُوَّاتِ الجَامِعَةِ العَرَبِيَّةِ الَّتِي هَبَّتْ لِمُسَاعَدَتِهِم (بَعْدَ السَّابِعِ مِنْ رَجَبٍ في نَفْسِ العَامِ 1367) اشْتَرَطَتْ تَجْرِيدَ المُجَاهِدِينَ المُسْلِمِينَ مِنَ السِّلاحِ، هَذَا أوَّلًا!
ثُمَّ ثَانِيًا: اشْتَرَطَتْ أيضًا إبْعَادَهُم عَنْ كَافَّةِ الجَبَهَاتِ؛ حَتَّى تَتَمَكَّنَ القُوَّاتُ النِّظَامِيَّةُ مِنْ خَوضِ المَعَارِكِ المَزْعُومَةِ، فَهْيَهَاتَ هَيهَاتَ!
لَكِنَّ هَذِهِ القُوَّاتِ النِّظَامِيَّةَ هُزِمَتْ على جَمِيعِ الجَبَهَاتِ، وتَرَاجَعَتْ عَنِ الأرَاضِي الَّتِي اسْتَطَاعَ المُجَاهِدُونَ المُسْلِمُونَ الدِّفَاعَ عَنْهَا، واضْطَرَّتِ الدُّوَلُ الَّتِي مَثَّلَتْهَا هَذِهِ القُوَّاتُ إلى عَقْدِ مُعَاهَدَاتِ هُدْنَةٍ مَعَ اليَهُودِ عُرِفَتْ بِمُعَاهَدَاتِ: «وَقْفِ إطْلاقِ النَّارِ» لِعَامِ (1368)، فاللهُ المُسْتَعَانُ!
* * *
كَمَا سَيطَرَ اليَهُودُ نَتِيجَةَ أحْدَاثِ (1367ـ 1368) على (3175كم2)، مِنْ أمْلاكِ اللَّاجِئِينَ المُسْلِمِينَ، ولِكَي تُضْفِي دَولَةُ اليَهُودِ الجَدِيدَةُ المُزَيَّفَةُ على هَذَا الاسْتِيلاءِ مُلْكَهَا، سَنَّتْ قَانُونَ أمْلاكِ الغَائِبِينَ، وقَانُونَ نَقْلِ الأمْوَالِ إلى سُلْطَةِ التَّعْمِيرِ والإنْشَاءِ لعَامِ (1369).
وفي عَامِ (1367) أيضًا، اسْتَولَتْ يَهُودُ على بَاقِي أرَاضِي فِلِسْطِينَ، وطَبَّقَتْ نَفْسَ القَوَانِينِ والإجْرَاءَاتِ والأسَالِيبِ على أرَاضِي الضِّفَّةِ الغَرْبِيَّةِ، وقِطَاعِ غَزَّةَ؛ بَلِ ابْتَدَعَتْ قَوَانِينَ أُخْرَى تُمَكِّنُها مِنْ سُرْعَةِ تَجْرِيدِ المُسْلِمِينَ مِنْ أرَاضِيهِم؛ تَحْتَ مُسَمَّى: «الأسَالِيبُ الأمْنِيَّةُ».
ووَضَعَتِ السُلُطَاتُ اليَهُودِيَّةُ يَدَهَا على (33%) مِنْ مَسَاحَةِ الضِّفَّةِ الغَرْبِيَّةِ، وقِطَاعِ غَزَّةَ؛ حَتَّى عَامَ (1409)، وأغْلَقَتْ نَحْوَ (17%) مِنَ المَسَاحَةِ لأسْبَابٍ أمْنِيَّةٍ مَزْعُومَةٍ!
وقَدِ اعْتَمَدَتِ الحَرَكَةُ الصِّهْيُونِيَّةُ اليَهُودِيَّةُ سَيَاسَةَ بِنَاءِ المُسْتَوطَنَاتِ في الأرَاضِي الَّتِي يتَمُّ الاسْتِيلاءُ عَلَيها؛ لإيجَادِ مَأوَى وعَمَلٍ لليَهُودِ المُهَاجِرِينَ النَّازِحِينَ مِنْ أكْثَرِ بِلادِ العَالمِ!
* * *
تَنْبِيـهٌ: وحَتَّى يَتَمَكَّنَ اليَهُودُ مِنْ تَنْفِيذِ مُخَطَّطَاتِ تَهْوِيدِ أرَاضِي فِلِسْطِينَ، حَافَظُوا على حَالَةِ العَدَاءِ مَعَ الدُّوَلِ العَرَبِيِّةِ المُحِيطَةِ المُجَاوِرَةِ، مُسْتَغِلِّينَ غَضْبَةَ المُسْلِمِينَ في فِلِسْطِينَ، وقِيَامَ أفْرَادٍ مِنْهُم بِبَعْضِ أعْمَالِ المُقَاوَمَةِ والجِهَادِ، أو إدْلاءَ بَعْضِهِم بِتَصْرِيحَاتِ تَنُمُّ عَنِ الإحْبَاطِ واليَأسِ، أو دَعْوَةَ بَعْضِهِم لِتَشْكِيلِ المُنَظَّمَاتِ الاسْتِشْهَادِيَّةِ!
ثُمَّ قَامَتْ أيضًا بتَشْكِيلِ مُنَظَّمَةِ التَّحْرِيرِ! ذَرِيعَةً لِتَنْفِيذِ سِيَاسَةِ الاعْتِدَاءِ على الأرَاضِي المُسْلِمَةِ في جَمِيعِ جَبَهَاتِ خُطُوطِ الهُدْنَةِ، أو شَنِّ حُرُوبٍ شَامِلَةٍ دَورِيَّةٍ كُلَّ عَشَرَ سَنَوَاتٍ تَقْرِيبًا!
يُوَضِّحُهُ؛ أنَّ الحُرُوبَ حَدَثَتْ في أعْوَامِ (1367ـ 1368)، و(1375)، و(1386)، و(1393)، و(1402)، وقَدْ كَانَ اليَهُودُ يُحَقِّقُونَ أهَدَافَهُمُ التَّوسُّعِيَّةَ في كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الحُرُوبِ، وفي كُلِّ حَرْبٍ أيضًا كَانَ اليَهُودُ يُؤَكِّدُونَ على تَشَبُّثِهِم بالأرَاضِي المُحْتَلَّةِ في الحُرُوبِ السَّابِقَةِ، وذَلِكَ بِسَبَبِ تَوَقُّفِ المُسْلِمِينَ في فِلِسْطِينَ وخَارِجِهَا عَنِ المُطَالَبَةِ بِتِلْكَ الأرَاضِي، والتَّفَرُّغِ لِلْمُطَالَبَةِ بالأرَاضِي المُحْتَلَّةِ في الحُرُوبِ اللاَّحِقَةِ.
ومِنْ هُنَا، فَإنَّ الدَّولَةَ اليَهُودِيَّةَ الَّتِي نَشَأتْ بِقَرَارٍ مِنَ الأُمَمِ المُتَّحِدَةِ، هِيَ الوَحِيدَةُ في العَالَمِ الَّتِي دَأبَتْ وبإصْرَارٍ على التَّمَلُّصِ مِنْ قَرَارَاتِ مَجْلِسِ الأمْنِ، والمُنَظَّمَاتِ الدُّوَلِيَّةِ، مُسْتَنِدَةً في ذَلِكَ على التَأيِيدِ، والدَّعْمِ لمَشَارِيعِهَا العُدْوَانِيَّةِ مِنْ قِبَلِ الوِلايَاتِ المُتَّحِدَةِ الأمْرِيكِيَّةِ، وسَائِرِ الدُّوَلِ الغَرْبِيَّةِ.
* * *
ومُنْذُ أنْ قَادَ حِزْبُ العُمَّالِ «مَابَاي» حُكُومَةَ اليَهُودِ منْ تَارِيخِ تَأسِيسِهَا؛ حتَّى عَامَ (1397)، وهُوَ يَسْعَى حَثِيثًا في إقَامَةِ دَولَةِ يَهُودَ في المَنْطِقَةِ بِكُلِّ أنْوَاعِ الطُرُقِ الوَحْشِيَّةِ، والعُدْوَانِيَّةِ، وهَكَذا؛ حَتَّى أسْفَرَتِ الانْتِخَاباتُ البَرْلَمَانِيَّةُ الَّتِي حَوَّلَتِ القِيَادَةَ اليَهُودِيَّةَ إلى تَجَمُّعِ: «اللِّيكُودِ» بِزَعَامَةِ «بِيجِين»، وهُوَ إرْهَابِيٌّ مُسَجَّلٌ في قَائِمَةِ الإرْهَابِيِّينَ المَطْلُوبِينَ لِحُكُومَةِ الانْتِدَابِ، وكَانَ يَتَرَأسُ إحْدَى العِصَاباتِ الإرْهَابِيَّةِ في فِلِسْطِينَ قَبْلَ قَرَارِ التَّقْسِيمِ.
وفي عَهْدِهِ أجْرَى الرَّئِيسُ المِصْرِيُّ: مُحَمَّد أنْوَر السَّادَاتُ؛ مُبَاحَثَاتٍ مَعَهُ بِحُضُورِ الرَّئِيسِ الأمْرِيكِيِّ «كَارْتَرْ» في «كَامْب دِيفِيد»، وذَلِكَ في أعْقَابِ الزِّيَارَةِ المُفَاجِئَةِ الَّتِي قَام بها السَّادَاتُ لِبَيتِ المَقْدِسِ، لِبَحْثِ قَضِيَّتِي: المَسْألَةِ الفِلِسْطِينَيَّةِ، والجَلاءِ عَنْ سَينَاءَ.
وقَدْ أسْفَرَتِ المُبَاحَثَاتُ الَّتِي أُجْرِيَت في عَامِ (1399) عَنْ فَشَلِهَا في حَلِّ المَسْألَةِ الأولى، وعَنْ عَقْدِ مُعَاهَدَةِ سَلامٍ دَائِمٍ بَينَ الطَّرَفَينِ: المِصْرِيِّ واليَهُودِيِّ في ظِلِّ وُجُودِ قُوَّاتٍ دُوَلِيَّةٍ، كَمَا سَيَأتي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللهُ.
* * *
وهَذِهِ بَعْضُ صُوَرِ اتِّفَاقَاتِ «كَامْب دِيفِيد» باخْتِصَارٍ:
لَقَدِ اجْتَمَعَ الرِّئِيسُ محَمَّد أنوَر السَّادَاتُ رَئِيسُ جَمْهُورِيَّةِ مِصْرَ العَرَبِيَّةِ، و«مِنَاحِيم بِيجِن» رئِيسُ وُزَرَاءِ إسْرَائِيلَ مَعَ «جِيمِي كَارْتَرْ» رَئِيسِ الوِلايَاتِ المُتَّحِدَةِ الأمْرِيكِيَّةِ اثْنَي عَشَرَ يَومًا في «كَامْب دِيفِيد» وذَلِكَ عَامَ (1399)، وبالتَّحْدِيدِ مِنْ (5 إلى 17 سِبْتَمْبَر 1978م)، واتَّفَقُوا على الإطَارِ التَّالي للسَّلامِ في الشَّرْقِ الأوسَطِ، وهُم يَدْعُونَ أطْرَافَ النِّزَاعِ العَربيِّ ـ الإسْرَائِيليِّ ـ الأُخْرَى إلى الانْضِمَامِ إلَيهِ»، في حِينَ أنَّ هَذَا الاتِّفَاقَ: هُوَ قَرَارُ مَجْلِسِ الأمْنِ الدُّولي، رَقَمُ (242) بجَمِيعِ أجْزَائِهِ، وسَيُرْفَقُ القَرَارَانِ رَقْمُ (242)، ورَقْمُ (238) بهَذِهِ الوَثِيقَةِ.
إنَّ هَذَا الإجْتَماعَ الَّذِي عُقِدَ في «كَامْب دِيفِيد»: هُوَ في حَقِيقَتِهِ تَسْوِيَةٌ للسَّلامِ، ورَفْعٌ للنِّزَاعِ الَّذِي بَينَ اليَهُودِ وجِيرَانِهَا مِنَ الدُّوَلِ العَرَبِيَّةِ، كَمَا أنَّهُ وَثِيقَةٌ للاعْتِرَافِ بدَولَةِ اليَهُودِ في أرْضِ فِلِسْطِينَ، وتَطْبِيعٌ مَعَ بَاقِي الدُّوَلِ المُجَاوِرَةِ، في غَيرِهَا مِنَ المَخَاطِرِ الكَبِيرَةِ الَّتِي كَانَتْ مَحلًّا للخِلافِ بَينَ أكْثَرِ الدُّوَلِ الإسْلامِيَّةِ، والرَّئِيسِ المِصْرِيِّ آنَذَاكَ، بَلْ كَانَتْ محَلًّا للنِّقَاشِ والرَّدِّ والاسْتِنْكَارِ مِنْ عَامَّةِ المُسْلِمِينَ حُكَّامًا ومَحْكُومِينَ، الأمْرُ الَّذِي أشْغَلَ أهْلَ العِلْمِ في ذِكْرِ أبْعَادِ وأخْطَارِ هَذِهِ المُبَادَرَةِ الَّتِي جَنَحَ إلَيهَا الرِّئِيسُ المِصْرِيُّ، آنَذَاكَ!
فالحَقُّ الَّذِي كَانَ المُسلِمُونَ يُدَافِعُونَ عَنْهُ، ويُنَافِحُونَ مْنَ أجْلِهِ ذَهَبَ أدْرَاجَ الرِّيَاحِ، وأصْبَحَ أثرًا بَعْدَ عَينٍ، وذَلِكَ بِما كَسِبَتْهُ أيدِي السَّادَاتِ المِصْرِيِّ، ولَيسَ المَقَامُ هُنَا مَحلًّا لبَسْطِ الأخْطَارِ والأضْرَارِ الَّتِي تَرَتَّبَتْ على اتِّفَاقِ «كَامْبْ دِيفِيد»، في حَقِّ المُسْلِمِينَ في فِلِسْطِينَ، وفي بَيتِ المَقْدِسِ، فَاللهُ المُسْتَعَانُ.
ومَهْما يَكُنْ؛ فالحَقُّ لَهُ رِجَالٌ، والطَّائِفَةُ المَنْصُورَةُ لم تَزَلْ بَاقِيَةً إلى قِيَامِ السَّاعَةِ، والحَقُّ مُنْتَصِرٌ، ولَو بَعْدَ حِينٍ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالى: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» (المُجَادِلَةُ:21).
وقَالَ تَعَالى: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَومَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ» (غَافِرُ: 51).
وقَالَ تَعَالى: «وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا» (النِّسَاءُ: 122).
وقَالَ تَعَالى: «اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ لَا رَيبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا» (النِّسَاءُ: 87).
* * *
تَخَاذُلٌ مَكْشُوفٌ:
وفي يَومِ (7/7/1367)، أي: بالضَّبْطِ في السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ وخَمْسَةٍ وأرْبَعِينَ دَقِيقَةً مِنْ يَومِ (مَايُو آيَار 1948م)، بَينَما كَانَ أبْنَاءُ مِصْرَ، وفِلِسْطِينَ، والبُلْدَانِ العَرَبِيَّةِ مِنَ الجُنُودِ البَوَاسِلِ والمُتَطَوِّعِينَ يُقَاتِلُونَ اليَهُودَ ويَخُوضُونَ مَيدَانِ المَعْرَكَةِ، كَانَتِ الإذَاعَةُ المِصْرِيَّةُ تُذِيعُ وَصْفًا لمُبَارَاةِ كُرَةِ القَدَمِ بَينَ فَرِيقِ مِصْرَ والفَرِيقِ المَجَرِيِّ على أرْضِ ثَكَنَاتِ مُصْطَفَى بَاشَا بالإسْكِنْدِرِيَّةِ، وفي السَّاعَةِ الخَامِسَةِ وخَمْسَةٍ وأرْبَعِينَ دَقِيقَةً، كَانَتْ تُذِيعُ عَدِيدًا مِنْ أغَاني الحُبِّ والغَرَامِ في بَرْنَامِجِ مَا يَطْلُبُهُ المُسْتَمِعُونَ!
ولم يَخْتَلِفِ الوَضْعُ في دِمِشْقَ، وبَغْدَادَ، وبَيرُوتَ عَنِ الوَضْعِ في القَاهِرَةِ؛ حَيثُ كَانَتْ جَمَاعَاتٌ مِنَ المُسْلِمِينَ تَتَحَدَّثُ عَنْ زَحْفٍ عَسْكَرِيٍّ على أرْضِ فِلِسْطِينَ، وجُمُوعٌ غَفِيرَةٌ تَؤمُّ دُورَ السِّينَما، والمَسَارِحِ، ومَلاعِبِ الكُرَةِ، وأنْدِيَةِ القِمَارِ في اطْمِئْنَانِ، كَأنَّ الأمْرَ لا يَعْنِيهَا ولا يُشْغِلُهَا؛ فَبَينَما الأبْطَالُ الفِلِسْطِينيُّونَ يَتَرنَّحُونَ تَحْتَ سِلاحِ الصِّهْيُونِيَّةِ المُسْتَورَدِ بعَونِ أمْرِيكا، وبِرِيطَانِيَا، ودُوَلِ أورُوبَّا كُلِّهَا، كَانَ جَانِبٌ آخَرُ مِنَ الأمَّةِ يُمَثِّلُ عَدَمَ المُبَالاةِ، والبُعْدَ عَنْ مُسْتَوَى المَعْرَكَةِ وجِدِّيَّتِهَا، انْظُرْ: «الطَّرِيقَ إلى بَيتِ المَقْدِسِ» (300).
* * *
وفي أوَّلِ مَطْلَعِ سَنَةَ (1/1/1430)، وبَينَا أنَا أكْتُبُ هَذِهِ المَآسِي النَّازِلَةَ بإخْوَانِنَا في أرْضِ فِلِسْطِينَ؛ إذْ بالحَرْبِ الفَاجِعَةِ تُطَالِعُنَا على أهْلِنَا في قِطَاعِ غَزَّةَ على أيدِي اليَهُودِ، وأعْوانِهِم مَنَ الصَّلِيبِيِّينَ، وبَينَما نَحْنُ نَعِيشُ هَذِهِ الأوضَاعَ المأسَاوِيَّةَ؛ إذْ بدُوَلِ الخَلِيجِ العَرَبيِّ تُقِيمُ دَورِيًّا رِيَاضِيًّا في دَولَةِ عُمَانَ: أي في الوَقْتِ الَّذِي تَنْهَالُ فِيهِ القَنَابِلُ الفِسْفُورِيَّةُ، والتَّرَدُّدِيَّةُ على أهْلِنَا المُسْلِمِينَ في غَزَّةَ!
ومِنْ بَقَايَا الخُذْلانِ، وممَاسِخِ الفِكْرِ؛ أنَّ بَعْضَ المَسْؤولِينَ الرِّيَاضِيِّينَ، والمُشَارِكِينَ في هَذَا الدَّورِي الرِّيَاضِي، لمَّا سُئِلَ عَنْ قِيَامِ هَذَا الدَّورِي في عُمَانَ، وعَنْ مُشَارَكَةِ فَرِيقِهِ في الوَقْتِ الَّذِي تَقُومُ فِيهِ اليَهُودُ بحَرْبٍ شَرِسَةٍ ضِدَّ إخْوَانِنَا العُزَّلِ في قِطَاعِ غَزَّةَ؟ قَالَ هَذَا المَسْكِينُ: كُلُّ هَذَا تَضَامُنًا مِنَّا مَعَ إخْوَانِنَا في غَزَّةَ، كَي تَعْلَمَ اليَهُودُ أنَّها بحَرْبِهَا الشَّرِسَةِ هَذِهِ لَنْ تُثْنِينَا عَنْ عَزِيمَتِنَا في إتْمَامِ هَذَا الدَّورِيِّ، ولَنْ تَزِيدَنَا هَذِهِ الحَرْبُ إلَّا إقْدَامًا، فاللهُ المُسْتَعَانُ!
* * *
نَعَم؛ لم تَتَوَقَّفْ دَولَةُ الاحْتِلالِ، مُنْذُ وُجِدَتْ على الأرَاضِي الفِلِسْطِينَيَّةِ عَنْ مُهَاجَمَةِ حُدُودِ الدُّوَلِ العَرَبِيَّةِ المُحِيطَةِ بِها، وذَلِكَ بِحُجَّةِ إبْعَادِ المُجَاهِدِينَ الاسْتِشْهَادِيِّينَ الفِلِسْطِينَيِّينَ عَنْهَا.
ففِي (شَعْبَانَ/1402) اجْتَاحَتِ القُوَّاتُ اليَهُودِيَّةُ الجَنُوبَ اللِّبْنَانِيَّ؛ بِحُجَّةِ الانْتِقَامِ مِنَ المُقَاوَمَةِ الجِهَادِيَّةِ الفِلِسْطِينَيَّةِ، والرَّدِّ على هَجَماتِها على شَمَالَي فِلِسْطِينَ المُحْتَلَّةِ.
لِذَا لم تَتَوَقَّفِ اليَهُودُ عَنْ ضَرْبِ لِبْنَانَ؛ إلَّا بَعْدَ تَجْرِيدِ الفِلِسْطِينِيِّينَ مِنْ أسْلِحَتِهِم، وطَرْدِهِم مِنْ كُلِّ لِبْنَانَ.
ومَعَ ذَلِكَ سَحَبَ اليَهُودُ قُوَّاتِهِم مِنْ أوَاسِطِ لِبْنَانَ فَقَط، واحْتَفَظُوا بَشَرِيطٍ أمْنِيٍّ على طُولِ الحُدُودِ الجَنُوبِيَّةِ والشَّرْقِيَّةِ لِلِبْنَانَ؛ إلَّا أنَّهُم انْسَحَبُوا مِنْهُ أخِيرًا، في حِينِ أنَّها أبْقَتْ في حَوزَتِهِم «مَزَارِعَ شُبْعَا»!
وفي (مُحَرَّمِ/1404)، تَخَلَّى «بِيجِينَ» عَنْ رِئَاسَةِ الوُزَرَاءِ لـ «إسْحَاقَ شَامِير» الَّذِي تَرَأسَ بَعْدَهُ كُتْلَةَ «اللِّيكُود»!
ومِنَ المَعْرُوفِ أنَّ «شَامِير» إرْهَابِيٌّ آخَرُ؛ كَانَ مَطْلُوبًا مِنْ قِبَلِ الحُكُومَةِ البِرِيطَانِيَّةِ أيضًا؛ لِقَيَامِهِ بأعْمَالٍ إرْهَابِيَّةٍ، وقَدْ كَانَ زَعِيمًا لإحْدَى الُمنَظَّمَاتِ الإرْهَابِيَّةِ، وفي الفَتْرَةِ (5ـ 1409) شَارَكَ حِزْبُ العَمَلِ، وكُتْلَةُ «اللِّيكُود» في الحُكْمِ مَعًا بِسَبَبِ عَدَمِ اسْتِطَاعَةِ أيٍّ مِنَ الكُتْلَتَينِ السَّيطَرَةَ على أغْلَبِيَّةِ أصْوَاتِ مَجْلِسِ النُوَّابِ، وبِقَصْدِ التَّعَاوُنِ لِلتَّغَلُّبِ على التَّضَخُّمِ الَّذِي ارْتَفَعَ بِنِسْبَةِ (400%) عَامَ (1405).
* * *
وحِينَما وَصَلَ المُسْلِمُونَ في فِلِسْطِينَ تَحْتَ هَذَا الاحْتِلالِ: دَرَجَةً بالِغَةً مِنَ الإحْبَاطِ واليَأسِ مِنْ جَرَّاءِ الإرْهَابِ الفَرْدِيِّ والدُّوَلِيِّ المُنَظَّمِ، والمَدْعُومِ مِنَ الدُّوَلِ الكُبْرَى المُسَيطِرَةِ على الأمَمِ المُتَّحِدَةِ، ومَجْلِسِ الأمْنِ أكْثَرَ مِنْ نِصْفِ قَرْنٍ، ومِنْ جَرَّاءِ الاضْطِهَادِ أيضًا، والتَّآمُرِ مِنَ الدَّاخِلِ والخَارِجِ؛ انْدَلَعَتِ انْتِفَاضَةٌ جِهَادِيَّةٌ عَامَّةٌ، بَدَأتْ في (16/4/1408)؛ حَيثُ وَاجَهَ الشَّبَابُ والأطْفَالُ فِيهَا العَدُوَّ اليَهُودِيَّ المُدَجَّجَ بأحْدَثِ الأسْلِحَةِ، وهُم مُجَرَّدُونَ مِنْ أيِّ سِلاحٍ؛ إلَّا من إيمَانِهِم باللهِ تَعَالى؛ غَيرَ عَابِئِينَ بالنَّتَائِجِ الَّتِي يُمْكِنُ أن تُسْفِرَ عَنْهَا هَذِهِ المُجَابَهَةُ الحَتْمِيَّةُ: وهِيَ القَتْلُ، أو الجِرَاحَاتُ، أو الاعْتِقَالاتُ، أو التَّعْذِيبُ، أو هَدْمُ البُيُوتِ، أو الطَّرْدُ مِنَ الوَظَائِفِ، أو الإبْعَادُ مِنَ البِلادِ ... ومِنْ هُنَا أُطْلِقَ على هَذِهِ الانْتِفَاضَةِ الجِهَادِيَّةِ: مُصْطَلَحُ أطْفَالِ الحِجَارَةِ!
وهِيَ في حَقِيقَتِهَا: حَرَكَةٌ شَعْبِيَّةٌ جِهَادِيَّةٌ قَدْ تَبَنَّتْهَا حَرَكَةُ المُقَاوَمَةِ الإسْلامِيَّةِ الَّتِي أُطْلِقَ عَلَيهَا اسْمُ: «حَمَاس»، والَّتِي يَتَرأسُهَا الشَّيخُ المُجَاهِدُ الشَّهِيدُ (ولا نُزَكِّيهِ على اللهِ): أحمَدُ يَاسِين رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى (1356ـ 1425).
* * *
وبَينَما الأحْدَاثُ تَتَكَشَّفُ يَومًا بَعْدَ يَومٍ؛ إذْ كُشِفَ النِّقَابُ عَنْ إجْرَاءِ مُفَاوَضَاتٍ سِرِيَّةٍ بَينَ وَفْدٍ يَهُودِيٍّ، وآخَرَ مِنْ مُنَظَّمَةِ التَّحْرِيرِ الفِلِسْطِينَيَّةِ الَّتِي يَتَرأسُهَا: يَاسِرُ عَرَفَاتُ، بِوَسَاطَةِ الحُكُومَةِ النَّرْوِيجِيَّةِ، وقَدْ أسْفَرَتْ هَذِهِ المُفَاوَضَاتُ عَنْ إعْلانِ اعْتِرَافٍ مُتَبَادَلٍ بَينَ المُنَظَّمَةِ، والدَّولَةِ اليَهُودِيَّةِ في يَومَي (23-24/3/1414).
وتَمَّ التَّوقِيعُ على اتِّفَاقِيَّةِ الحُكْمِ الذَّاتِيِّ المَحْدُودِ على قِطَاعِ «غَزَّةَ»، و«أرِيحَا» بِوَصْفِهَا خُطْوَةً أُولَى، وذَلِكَ في احْتِفَالٍ كَبِيرٍ في حَدِيقَةِ البَيتِ الأبْيَضِ ـ بَيتِ العَنْكَبُوتِ الأسْوَدِ ـ بِوَاشُنْطُنْ بِتَارِيخِ (27/3/1414)، وذَلِكَ بِحُضُورِ وَزِيرَي خَارِجِيَّةِ كُلٍّ مِنَ الوِلايَاتِ المُتَّحِدَةِ الأمْرِيكِيَّةِ، ورُوسِيَا الاتِّحَادِيَّةِ، وفي الرَّابِعِ مِنْ (ذِي القِعْدَةِ 1414) في القَاهِرَةِ وَقَّعَ أيضًا الرَّئِيسُ الفِلِسْطِينَيُّ: يَاسِرُ عَرَفَاتُ، وإسْحَاقُ رَابِينَ رَئِيسُ وُزَرَاءِ الحُكُومَةِ اليَهُودِيَّةِ: اتِّفَاقِيَّةَ قِيَامِ الحُكْمِ الذَّاتِيِّ في «غَزَّةَ»، و«أرِيحَا»، وفي (مُحَرَّمِ 1415)، وَصَلَ يَاسِرُ عَرَفَاتُ إلى «غَزَّةَ»؛ لِيُدِيرَ سُلْطَةَ الحُكْمِ الذَّاتِيِّ الفِلِسْطِينَيِّ!
قُلْتُ: مِمَّا لا شَكَّ فِيهِ أنَّ هَذَا الاتِّفَاقَ ـ الَّذِي بُيِّتَ بلَيلٍ ـ لم يَكُنْ في حَقِيقَتِهِ تَنَازُلًا عَنْ حَقٍّ للفِلِسْطِينِيِّنَ، كَمَا ظَنَّهُ يَاسِر عَرَفَات وغَيرُهُ، بَلْ يُعْتَبَرُ تَفْسِيرًا لنُبُوءَاتِ التَّوَرَاةِ المَزْعُومَةِ عِنْدَهُم؛ حَيثُ بَاتَ عِنْدَ اليَهُودِ في التَّورَاةِ: أنَّ «غَزَّةَ»، و«أرِيحَا» مِنَ المُدُنِ المَغْضُوبِ عَلَيهَا، فحِينَئِذٍ لا إشْكَالَ عِنْدَ القَادَةِ اليَهُودِ مِنْ اسْتِرْجَاعِهِما، والتَّناَزُلِ عَنْهُما!
* * *
وهَكَذَا أدَارَ القَائِدُ عَرَفَاتُ سُلْطَتَهُ الوَهْمِيَّةَ، وبَينَما هُوَ يَزْهُو على عَرْشِ سُلْطَتِهِ، ويُلَوِّحُ بِيَدَيهِ لأتْبَاعِهِ؛ إذْ بالقَذَائِفِ المُرْوَحِيَّةِ اليَهُودِيَّةِ الَّتِي لا تُبْقِي ولا تَذَرُ: تَتَسَاقَطُ على سُلْطَتِهِ الوَهْمِيَّةِ المَزْعُومَةِ بَينَ عَشِيَّةٍ وضُحَاهَا؛ وذَلِكَ في (رَجَبِ 1421)!
وبَعْدَ مَقْتَلِ يَاسِر عَرَفَات، جَاءَ دَورُ عَمَلِيَّةِ «تَلْمِيعِ» الشَّرِيكِ الجَدِيدِ أبي مَازِنٍ مَحْمُود عَبَّاسٍ ليَكُونَ مُؤهَّلًا لعَقْدِ اتِّفَاقِيَّاتِ السَّلامِ، وعَنْدَمَا تَأهَّبَ أبو مَازِنٍ وتَأهَّلَ بَدَأتْ عَمَلِيَّةُ تَكْسِيرِ عِظَامِ الشَّرِيكِ الجَدِيدِ وإهْمَالِهِ وتَحْوِيلِهِ إلى مُوظَّفِ عُمُومٍ، ليَقُولَ بَعْدَهَا الإسْرَائِيلِيُّونَ في النِّهَايَةِ: «لم يَكُنْ أبو مَازِنٍ الَّذِي يُمَثِّلُ فَصِيلًا فِلِسْطِينِيًّا وَاحِدًا ... وهُوَ غَيرُ قَادِرٍ على تَقْدِيمِ أيِّ شَيءٍ، فَلِمَاذَا يَتِمُّ التَّبَاحُثُ مَعَهُ؟ ولمَاذَا المُفَاوَضَةُ والتَّخَلي والالْتِزَامُ؟ في حِينِ أنَّهُ مِنَ الوَاضِحِ أنَّهُ لا يُوجَدُ طَرَفٌ ثَانٍ تُسَاوِي كَلِمَتُهُ شَيئًا».
قَبْلَ مُؤتَمَرِ «أنَابُولْس» اجْتَمَعَ ثَلاثَةٌ مِنْ قَادَةِ الجَيشِ والاسْتِخْبَارَاتِ للكَيَانِ اليَهُودِيِّ: رَئِيسُ جِهَازِ الأمْنِ العَامِ «الشَّابَاك» يُوفَال دِيسكِين، ورَئِيسُ شُعْبَةِ الاسْتِخْبَارَاتِ العَسْكَرِيَّةِ عَامُوس يَدْلِين، بالإضَافَةِ إلى رَئِيسِ الأرْكَانَ غَابي أشْكنَازي، واتَّفَقُوا على أنَّ مَحْمُودَ عَبَّاس: «ضَعِيفٌ، ولَيسَ نَاضِجًا بَعْدُ! لتَطْبِيقِ اتِّفَاقِ سَلامٍ مَعَ إسْرَائِيلَ، وقُدْرَتُهُ على التَّنْفِيذِ مَعْدُومَةٌ»!
وقَدَّمَ الثَّلاثَةُ تَوصِيَةً إلى الحَكُومَةِ الإسْرَائِيلِيَّةِ: أنْ تُدِيرَ المُفَاوَضَاتِ على التَّسْوِيَةِ الدَّائِمَةِ، على ألَّا يَتَجَاوَزَ المُفَاوِضُونَ مُسْتَوَى «اتِّفَاقِ أدْرَاجٍ» يُؤجَّلُ تَطْبِيقُهُ لسَنَوَاتٍ، إلى أنْ تُثْبِتَ السُّلْطَةُ الفِلِسْطِينِيَّةُ أنَّهَا شَرِيكٌ في عَمَلِيَّةِ سَلامٍ».
لَقَدْ كَانَ تَأسِيسُ نِظَامِ الحُكْمِ الذَّاتي على غَزَّةَ والضِّفَّةِ الغَرْبِيَّةِ بمَنْزِلَةِ تَحَوُّلٍ في شَكْلِ السَّيطَرَةِ الإسْرَائِيلِيَّةِ، ولَيسَ غِيَابًا لهَا، وبَقِيَتِ القَرَارَاتُ الحَيَوِيَّةُ، والمَسَائِلُ المُتَعَلِّقَةُ للسِّيَادَةِ: مِنْ حَقِّ الكَيَانِ الصِّهْيُوني اليَهُودِي وَحْدَهُ.
مِثْلَ: النِّظَامِ الجُمْرُكِي، والنِّظَامِ المَصْرَفي، وعَمَلِيَّاتِ الاتِّصَالاتِ، والتَّصْدِيرِ والاسْتِيرَادِ، والسَّيطَرَةِ الجَوِّيَّةِ والبَحْرِيَّةِ والبَرِّيَّةِ (الحُدُودِيَّةِ)، وإدَارَةِ المِيَاهِ، والإمْدَادِ بالكَهْرَبَاءِ، وتَقْنِينِ نَوعِيَّاتِ السِّلاحِ، وكِمِّيَاتِهِ المُسْتَخْدَمَةِ مِنْ قِبَلِ الأجْهِزَةِ الأمْنِيَّةِ، وبَقَاءِ الحَوَاجِزِ في مُعْظَمِ مَنَاطِقِ الضِّفَّةِ الغَرْبِيَّةِ، والَّتِي يَتَجَاوَزُ عَدَدُهَا سِتَّمائَةِ حَاجِزٍ مَوجُودَةٍ حَتَّى الآنَ، ويَخْضَعُ لهَا حَتَّى مَسْؤولُو السُّلْطَةِ ... إلخ.
وأغْلَبُ هَذِهِ القُيُودِ يُفْتَرَضُ أنْ تَسْتَمِرَّ حَتَّى بَعْدَ تَأسِيسِ الدَّولَةِ «المَزْعُومَةِ» الَّتِي سَوفَ تَكُونُ نَاقِصَةَ السِّيَادَةِ ومَنْزُوعَةَ السِّلاحِ، ومُعْتَمِدَةً بشَكْلٍ كُلِّيٍّ في اقْتِصَادِهَا على الاقْتِصَادِ «الإسْرَائِيلي، بَلْ إنَّهُ مُنْذُ الآنَ يَتَشَدَّدُ قَادَةُ الكَيَانِ اليَهُودِي في تَمَسُّكِهِم بمَكَاتِبِ الاسْتِخْبَارَاتِ الَّتِي أنْشَؤوهَا دَاخِلَ الضِّفَّةِ في كُلِّ مَكَانٍ، ويُصِرُّونَ على بَقَائِهَا حَتَّى بَعْدَ إعْلانِ الدَّولَةِ الفِلِسْطِينِيَّةِ». انْظُرْ: «مَوقِعَ تقْرِيرِ وَاشُنْطُن»، و«لمَاذَا يَكْرَهُونَ حَمَاس» لأحْمَدَ فَهْمِي (122، 156).
الشيخ الدكتور
ذياب بن سعد الغامدي
كتاب (القضية الفلسطينية)
ص 36
|
|
|
|
|