|
|
|
المَذْهَبُ الظَّاهِرِيُّ
لا شَكَّ أنَّ «المَذْهَبَ الظَّاهِريَّ» قَدِ انْتَشَرَ مُنْذُ القَرْنِ الثَّالِثِ إلى آخَرِ القَرْنِ السَّادِسِ، ثُمَّ آلَ إلى الانْحِسَارِ شَيْئًا فَشَيْئًا؛ حَتَّى انْدَثَرَ في القَرْنِ الثَّامِنِ تَقْرِيْبًا.
ومَعَ هَذَا؛ فَلَمْ يَعُدْ لـ«المَذْهَبِ الظَّاهِريِّ» ظُهُوْرٌ وانْتِشَارٌ إلى زَمَانِنَا هَذَا، إلَّا عِنْدَ بَقَايَا قَلِيْلَةٍ أبَتْ إلَّا الانْتِسَابَ إلَيْهِ، مِمَّنْ تَكَلَّفُوا انْتِحَالَ المَذْهَبِ، ولَوْ مَعَ مُخَالَفَتِهِم للجُمْهُوْرِ!
وهَذَا مَا ذَكَرَهُ ابنُ خَلْدُوْنٍ في «مُقَدِّمَتِهِ» (3/1047): «ثُمَّ دَرَسَ مَذْهَبُ أهْلِ الظَّاهِرِ اليَوْمَ بدُرُوْسِ أئِمَّتِهِ، وإنْكَارِ الجُمْهُوْرِ على مُنْتَحِلِهِ، ولم يَبْقَ إلَّا في الكُتُبِ المُجَلَّدَةِ، ورُبَّما يَعْكِفُ كَثِيْرٌ مِنَ الطَّالِبِيْنَ مِمَّنْ تَكَلَّفَ بانْتِحَالِ مَذْهَبِهِم على تِلْكَ الكُتُبِ، يَرُوْمُ أخْذَ فِقْهِهِم ومَذْهَبِهِم مِنْهَا، فَلا يَحْلُو بطَائِلٍ، ويَصِيْرُ إلى مُخَالَفَةِ الجُمْهُوْرِ وإنْكَارِهِم عَلَيْهِ، ورُبَّما عُدَّ بِهَذِهِ النِّحْلَةِ مِنْ أهْلِ البِدَعِ بنَقْلِهِ العِلْمَ مِنَ الكُتُبِ مِنْ غَيْرِ مِفْتَاحِ المُعَلَّمِيْنَ، وقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ ابنُ حَزْمٍ بالأنْدَلُسِ على عُلُوِّ رُتْبَتِهِ في حِفْظِ الحَدِيْثِ، وصَارَ إلى مَذْهَبِ أهْلِ الظَّاهِرِ، ومَهَرَ فِيْهِ باجْتِهَادٍ زَعَمَهُ في أقْوَالِهِم، وخَالَفَ إمَامَهُم دَاوُدَ، وتَعَرَّضَ للكَثِيْرِ مِنَ الأئِمَّةِ المُسْلِمِيْنَ؛ فنَقِمَ النَّاسُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وأوْسَعُوا مَذْهَبَهُ اسْتِهْجَانًا وإنْكَارًا، وتَلَقَّوْا كُتُبَهُ بالإغْفَالِ والتَّرْكِ؛ حَتَّى إنَّهَا ليَحْصُرُ بَيْعُهَا بالأسْوَاقِ، ورُبَّمَا تُمَزَّقَ في بَعْضِ الأحْيَانِ، ولم يَبْقَ إلَّا مَذْهَبَ أهْلِ الرَّأي مِنَ العِرَاقِ، وأهْلِ الحَدِيْثِ مِنَ الحِجَازِ» انْتَهَى.
وقَالَ الذَّهَبِيُّ في «السِّيَرِ» (8/92): «ولاَ بَأْسَ بِمَذْهَبِ دَاوُدَ، وفِيْهِ أقْوَالٌ حَسَنَةٌ، ومُتَابَعَةٌ لِلنُّصُوصِ، مَعَ أنَّ جَمَاعَةً مِنَ العُلَمَاءِ لا يَعتَدُّونَ بِخِلاَفِهِ، وَلَهُ شُذُوْذٌ فِي مَسَائِلَ شَانَتْ مَذْهَبَهُ»!
* * *
لِذَا فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُوْرُ أهْلِ العِلْمِ إلى عَدَمِ اعْتِبَارِ «المَذْهَبِ الظَّاهِريِّ»، وعَدَمِ الاعْتِدَادِ بخِلافِهِ، لأسْبَابٍ كَثِيْرَةٍ، مِنْهَا باخْتِصَارٍ:
السَّبَبُ الأوَّلُ: إنْكَارُ الظَّاهِرِيَّةِ للقِيَاسِ جُمْلَةً، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلامِ ابنِ حَزْمٍ رَحِمَهُ اللهُ في كِتَابِهِ «الإحْكَامِ» (7/370)؛ حَيْثُ قَالَ: «وذَهَبَ أصْحَابُ الظَّاهِرِ إلى إبْطَالِ القَوْلِ بالقِيَاسِ في الدِّيْنِ جُمْلَةً... ـ ثُمَّ قَالَ ـ: وهَذَا هُوَ قَوْلُنَا الَّذِي نَدِيْنُ اللهَ بِهِ»!
فَأنْتَ تَرَى أنَّهُ حَكَى إنْكَارَ أهْلِ الظَّاهِرِ للقِيَاسِ، ثُمَّ اخْتَارَهُ لنَفْسِهِ! غَيْرَ أنَّ بَعْضَ المُحَقِّقِيْنَ قَدِ اخْتَلَفُوا في حَقِيْقَةِ إنْكَارِ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ رَحِمَهُ اللهُ للقِيَاسِ، فذَهَبَ بَعْضُهُم إلى: أنَّهُ يُنْكِرُ القِيَاسَ الخَفِيَّ دُوْنَ الجَليِّ، إلَّا إنَّ ابنَ حَزْمٍ رَحِمَهُ اللهُ هُوَ أدْرَى بحَقِيْقَةِ مَذْهَبِ دَاوُدَ مِنْ غَيْرِهِ، وهُوَ كَذَلِكَ!. انْظُرْ: «التَّمَذْهُبَ» لليَافِعِي (223).
السَّبَبُ الثَّاني: أنَّ الظَّاهِرِيَّةَ لم يَقْتَصِرُوا على إنْكَارِ القِيَاسِ حَسْبُ، بَلْ جَنَحُوا إلى تَرْكِ تَعْلِيْلِ نُصُوْصِ الكِتَابِ والسُّنَّةِ، وعَدَمِ الاحْتِجَاجِ بالمَصَالِحِ المُرْسَلَةِ، والاسْتِحْسَانِ، وسَدِّ الذَّرَائِعِ، وعَدَمِ الالْتِفَاتِ إلى مَقَاصِدِ الشَّارِعِ، وتَرْكِ العَمَلِ بقَوَاعِدِ الشَّرِيْعَةِ العَامَّةِ، ومَنْعِ جَمِيْعِ الشُّرُوْطِ الجَعْلِيَّةِ في العُقُوْدِ إلَّا مَا نَصَّ الشَّارِعُ على جَوَازِهِ... الأمْرُ الَّذِي كَانَ سَبَبًا في جُمُوْدِ «المَذْهَبِ الظَّاهِريِّ»، مِمَّا أوْقَعَ أصْحَابَهُ في ضِيْقٍ وحَرَجٍ شَدِيْدٍ، لاسِيَّما عِنْدَ مُعَالَجَةِ النَّوَازِلِ الفِقْهِيَّةِ!
يَقُوْلُ ابنُ القَيِّمِ في «الطُّرُقِ الحُكْمِيَّةِ» (1/323): «ولَكِنْ أبُو مُحَمَّدٍ ـ أيْ: ابنُ حَزْمٍ ـ وأصْحَابُهُ سَدُّوا على نُفُوسِهِم بَابَ اعْتِبَارِ الْمَعَانِي والحِكَمِ الَّتِي عَلَّقَ بِهَا الشَّارِعُ الحُكْمَ، فَفَاتَهُم بِذَلِكَ حَظٌّ عَظِيمٌ مِنَ العِلْمِ، كَمَا أنَّ الَّذِينَ فَتَحُوا على نُفُوسِهِم بَابَ الأقْيِسَةِ والعِلَلِ ـ الَّتِي لَمْ يَشْهَدْ لَهَا الشَّارِعُ بِالقَبُولِ ـ دَخَلُوا في بَاطِلٍ كَثِيرٍ، وفَاتَهُمْ حَقٌّ كَثِيرٌ، فَالطَّائِفَتَانِ في جَانِبِ إفْرَاطٍ وتَفْرِيطٍ» انْتَهَى.
السَّبَبُ الثَّالِثُ: أن دَاوُدَ الظَّاهِرِيَّ لم يَكُنْ مُجْتَهِدًا مُسْتَقِلًّا كَغَيْرِهِ مِنْ أصْحَابِ المَذَاهِبِ الأرْبَعَةِ وغَيْرِهَا، بَلْ كَانَ مُجْتَهِدًا مُنْتَسِبًا إلى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وكَانَ مُتَعَصِّبًا لَهُ، ثُمَّ ادَّعَى الاجْتَهَادَ، ولم يُسَلَّمْ لَهُ.
السَّبَبُ الرَّابِعُ: أنَّ «المَذْهَبَ الظَّاهِريَّ» لم يُحْفَظْ، كَمَا حُفِظَتْ بَقِيَّةُ المَذَاهِبِ في أُصُوْلِهِ، وقُوُاعِدِهِ، وفُرُوْعِهِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ شَأنِ خِدْمَةِ المَذَاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأُخْرَى، ويَدُلُّ على ذَلِكَ، مَا يَلي:
1ـ أنَّ مَا نَقَلَهُ ابنُ حَزْمٍ رَحِمَهُ اللهُ في «المُحَلَّى»، و«الإحْكَامِ» إنَّمَا يُمَثِّلُ اجْتِهَادَاتِهِ هُوَ، لا اجْتِهَادَاتِ دَاوُدَ وأصْحَابِ المَذْهَبِ، وهَذَا لا يَخْفَى على مَنْ طَالَعَ «المُحَلَّى»، وقَارَنَ آرَاءَ ابنِ حَزْمٍ بآرَاءِ دَاوُدَ؛ لأنَّ ابنَ حَزْمٍ كَانَ يَدَّعِي الاجْتِهَادَ كَمَا لا يَخْفَى أيْضًا، بَلْ كَانَ يُلْزِمُ كُلَّ النَّاسِ بالاجْتِهَادِ؛ حَتَّى العَذْرَاءَ في خِدْرِهَا، والبَدَوِيَّ في بَادِيَتِهِ!
2ـ أنَّ المَسَائِلَ المَوْجُوْدَةَ في «المُحَلَّى» ـ على فَرْضِ أنَّهَا اجْتِهَادَاتُ دَاوُدَ وأصْحَابِهِ ـ؛ فَهِيَ مَسَائِلُ مُنْتَقَاةٌ في الأبْوَابِ الفِقْهِيَّةِ، ولا تُمَثِّلُ الفِقْهَ، ولا تَشْمَلُ مُعْظَمَ مَسَائِلِهِ، كَمَا هُوَ الحَالُ في بَقِيَّةِ المَذَاهِبِ الأُخْرَى.
وهَذَا مِمَّا يَدُلُّ على قُصُوْرِ «المَذْهَبِ الظَّاهِريِّ»، ونَقْصِ مَدَارِكِهِ الفِقْهِيَّةِ، مِمَّا جَعَلَهُ يَضِيْقُ بكَثِيْرٍ مِنَ المَسَائِلِ الفِقْهِيَّةِ، ولا سِيَّما النَازِلَةِ مِنْهَا!
3ـ أنَّ «المَذْهَبَ الظَّاهِريَّ» لَيْسَ لَهُ كُتُبٌ في قَوَاعِدِهِ وضَوَابِطِهِ وفُرُوْقِهِ الفِقْهِيَّةِ، كَمَا هُوَ الحَالُ في بَقِيَّةِ المَذَاهِبِ الفِقْهِيَّةِ، مِمَّا جَعَلَهُ غَيْرَ مُكْتَمِلٍ في مَنْظُوْمَتِهِ الفِقْهِيَّةِ.
4ـ أنَّ «المَذْهَبَ الظَّاهِريَّ» لَيْسَ فِيْهِ مُخَرِّجُوْنَ، وأصْحَابُ وُجُوْهٍ، ومُرَجِّحُوْنَ، ومُصَحِّحُوْنَ، كَمَا هُوَ الحَالِ في بَقِيَّةِ المَذَاهِبِ الأُخْرَى.
5ـ أنَّ «المَذْهَبَ الظَّاهِريَّ» إنَّمَا نُقِلَ إلَيْنَا عَنْ طَرِيْقِ ابنِ حَزْمٍ وَحْدَهُ، وهَذَا على فَرْضِ أنَّ مَا في كُتُبِ ابنِ حَزْمٍ يُمَثِّلُ «المَذْهَبَ الظَّاهِريَّ»، أمَّا بَقِيَّةُ المَذَاهِبِ فَقَدْ تَنَاقَلَتْهَا العُلَمَاءُ جِيْلًا بَعْدَ جِيْلٍ مِمَّا بَلَغَ حَدَّ التَّوَاتُرِ، وهَذَا لا نَجِدُهُ في نَقْلِ الظَّاهِرِيَّةِ لمَذْهَبِهِم.
6ـ أنَّ «المَذْهَبَ الظَّاهِرِيَّ» قَدِ انْدَثَر مُنْذُ قُرُوْنٍ، بَلْ هَجَرَهُ عُمُوْمُ المُسْلِمِيْنَ مِنْ أهْلِ العِلْمِ وغَيْرِهِم، لذا لَمْ يَعُدْ يَصْلُحُ للتَّمَذْهُبِ بِهِ الآنَ إلَّا بنَوْعِ تَكَلُّفٍ وحَرَجٍ.
يُوَضِّحُهُ؛ أنَّ «المَذْهَبَ الظَّاهِرِيَّ» على مَرِّ العُصُوْرِ والدُّهُوْرِ: لم تَتَبَنَّاهُ دَوْلَةٌ، ولا بَلْدَةٌ، ولا إمَارَةٌ، ولا مُؤسَّسَاتٌ مُعْتَبَرَةٌ، الأمْرُ الَّذِي يَدُلُّ على عَدَمِ اعْتِبَارِهِ بَيْنِ عُمُوْمِ المُسْلِمِيْنَ!
السَّبَبُ الخَامِسُ: أنَّ مُؤسِّسَ المَذْهَبِ دَاوُدَ بنَ عَليٍّ الظَّاهِرِيَّ، ونَاقِلَهُ ابنَ حَزْمٍ: عَلَيْهِمَا مَآخِذُ عَقَدِيَّةٍ، أمَّا دَاوُدُ رَحِمَهُ اللهُ فَقَدِ اتُّهِمَ بالقَوْلِ بخَلْقِ القُرْآنِ، وأمَّا ابنُ حَزْمٍ رَحِمَهُ اللهُ فَقَدْ نَحَى مَنْحَى المُعْتَزِلَةِ في تَعْطِيْلِ الصِّفَاتِ.
ويَدُلُّ على ذَلِكَ مَا نَقَلَهُ القَاضِي عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ العُلَمَاءِ: أنَّ مَذْهَبَ دَاوُدَ بِدْعَةٌ ظَهَرَتْ بَعْدَ المَائَتَيْنِ!. انْظُرْ: «المِعْيَارَ المُعْرَبَ» (2/491).
السَّبَبُ السَّادِسُ: أنَّ الظَّاهِرِيَّةَ قَدْ تَمَيَّزُوا بكَثْرَةِ الشُّذُوْذَاتِ الفِقْهِيَّةِ عَنْ سَائِرِ المَذَاهِبِ الأُخْرَى، بَلْ لَوْ أرَدْتَ أنْ تُحْصِيَ مَا لـ«المَذْهَبِ الظَّاهِريِّ» مِنْ شُذُوْذَاتٍ فِقْهِيَّةٍ خَالَفَ فِيْهَا عَامَّةَ الفُقَهَاءِ لخَرَجْتَ بمُجَلَّدٍ مُسْتَنْكَرٍ!
قَالَ ابنُ أبي حَاتِمٍ الرَّازِيُّ عَنْ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ: «وتَفَقَّهَ ـ أيْ: دَاوُدَ ـ للشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ، ونَفَى القِيَاسَ، وألَّفَ في الفِقْهِ على ذَلِكَ كُتُبًا شَذَّ فِيْهِ عَنِ السَّلَفِ، وابْتَدَعَ طَرِيْقَةً هَجَرَهُ أكْثَرُ أهْلِ العِلْمِ عَلَيْهَا، وهُوَ مَعَ ذَلِكَ صَدُوْقٌ في رِوَايَتِهِ ونَقْلِهِ واعْتِقَادِهِ؛ إلَّا إنَّ رَأيَهُ أضْعَفُ الآرَاءِ وأبْعَدُهَا مِنْ طَرِيْقِ الفِقْهِ، وأكْثَرُهَا شُذُوْذًا». انْظُرْ: «لِسَانَ المِيْزَانِ» لابنِ حَجَرٍ (3/407).
وقَالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ في «المَجْمُوعِ» (4/396): «وأبُو مُحَمَّدٍ ـ أيْ: ابنُ حَزْمٍ ـ مَعَ كَثْرَةِ عِلْمِهِ وتَبَحُّرِهِ ومَا يَأتِي بِهِ مِنَ الفَوَائِدِ العَظِيمَةِ: لَهُ مِنَ الأقْوَالِ المُنْكَرَةِ الشَّاذَّةِ مَا يَعْجَبُ مِنْهُ، كَمَا يَعْجَبُ مِمَّا يَأتِي بِهِ مِنَ الأقْوَالِ الحَسَنَةِ الفَائِقَةِ».
السَّبَبُ السَّابِعُ: أنَّ الحَقَّ لم يَقْتَصِرْ على «المَذْهَبِ الظَّاهِرِيِّ» في وَاحِدَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الفِقْهِ، بَلْ لَيْسَ في «المَذْهَبِ الظَّاهِرِيِّ» مَسْألَةٌ فِقْهِيَّةٌ مُحَقَّقَةٌ؛ إلَّا وهِيَ مَوْجُوْدَةٌ في مَجْمُوْعِ المَذَاهِبِ الأرْبَعَةِ، بَلْ إنَّنِي لا أعْلَمُ مَسْألَةً فِقْهِيَّةً انْفَرَدَ بِهَا الظَّاهِرِيَّةُ عَنْ غَيْرِهِم مِنْ أصْحَابِ المَذَاهِبِ الأُخْرَى إلَّا وكَانَتْ ـ غَالِبًا ـ: شَاذَّةً مَطْرُوْحَةً!
يَقُوْلُ ابنُ تَيْمِيَّةَ في «مِنْهَاجِ السُّنَّةِ» (5/178): «وكَذَلِكَ أهْلُ الظَّاهِرِ، كُلُّ قَوْلٍ انْفَرَدُوا بِهِ عَنْ سَائِرِ الأُمَّةِ، فَهُوَ خَطَأٌ».
السَّبَبُ الثَّامِنُ: أنَّنَا لا نَعْلَمُ أحَدًا مِنَ الأئِمَّةِ المُعْتَبَرِيْنَ المَشْهُوْرِيْنَ قَدْ تَمَظْهَرَ بِهَذَا المَذْهَبِ إلَّا مَا كَانَ مِنْ دَاوُدَ وابنِ حَزْمٍ رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالى، وحَالَهُمَا كَمَا ذَكَرْتُ لَكَ آنِفًا!
* * *
وأخِيْرًا؛ فنَحْنُ مِنْ خِلالِ مَا مَضَى ذِكْرُهُ: لا نَقُوْلُ باطِّرَاحِ «المَذْهَبِ الظَّاهِرِيِّ» جُمْلَةً وتَفْصِيْلًا، بَلْ يُسْتَفَادُ مِنْهُ في قُوَّةِ المَنْزَعِ، وحُجَّةِ الدَّلِيْلِ، ومَسْلَكِ المَأخَذِ، لاسِيَّما فِيْمَا وَافَقَ الحَقَّ، وآزَرَ أهْلَ الحَقِّ مِنْ أصْحَابِ المَذَاهِبِ الأُخْرَى، بمَعْنَى: أنَّنَا نَأخُذُ بأقْوَالِ ابنِ حَزْمٍ واخْتِيَارَاتِهِ عِنْدَ الائْتِلافِ والاتِّفَاقِ، لا عِنْدَ الفِرَاقِ والخِلافِ، واللهُ المُوَفِّقُ.
ومَعَ هَذَا؛ فَإنَّنَا نَنْصَحُ عُمُوْمَ المُسْلِمِيْنَ، ولاسِيَّما طُلَّابَ العِلْمِ: أنْ يَسْتَغْنُوا بأحَدِ المَذَاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأرْبَعَةِ عَنِ الأخَذِ بـ«المَذْهَبِ الظَّاهِرِيِّ»، فَكَمْ طَالِبِ عِلْمٍ وَجَدْنَاهُ قَدْ تَمَظْهَرَ، ودَافَعَ عَنِ الظَّاهِرِيَّةِ؛ فَكَانَ أمْرُهُ مَرِيْجًا، وفِكْرُهُ لَجِيْجًا، ومَا رَكَنَ يَوْمًا إلى قَوْلٍ مِنْ أقْوَالِ الظَّاهِرِيَّةِ إلَّا وقَدْ قَلاهُ النَّاسُ، ولا سَكَنَ إلى مُذَاكَرَةِ مَسْألَةٍ ظَاهِرِيَّةٍ إلَّا رَمَاهُ أهْلُ العِلْمِ بالتَّشْهِيْرِ والتَّحْذِيْرٍ، وأقْصِدُ بذَلِكَ المَسَائِلَ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا «المَذْهَبُ الظَّاهِرِيُّ» عَنْ سَائِرِ الأُمَّةِ، لاسِيَّمَا أصْحَابِ المَذَاهِبِ الأرْبَعَةِ، واللهُ تَعَالى أعْلَمُ.
* * *
ثُمَّ كَانَ مِنْ تَمَامِ النَّصِيْحَةِ: أنَّ أحَدًا إذَا أبَى إلَّا امْتِطَاءَ «المَذْهَبِ الظَّاهِرِيِّ»؛ فَعَلَيْهِ والحَالَةُ هَذِهِ أنْ يَعْقِدَ قَلْبَهُ على أُمُوْرٍ، مِنْهَا:
1ـ أنْ يَعْلَمَ أنَّ غَالِبَ مَسَائِلِ «المَذْهَبِ الظَّاهِرِيِّ» مَوْجُوْدَةٌ في غَيْرِهِ مِنَ المَذَاهِبِ الأُخْرَى.
2ـ أنْ يَعْلَمَ أنَّ غَالِبَ المَسَائِلِ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا «المَذْهَبُ الظَّاهِرِيُّ»: شَاذَّةٌ مَرْدُوْدَةٌ.
3ـ أنْ يَعْلَمَ أنَّ التَّمَذْهُبَ بـ«المَذْهَبِ الظَّاهِرِيِّ»: لا يُخَرِّجُ فَقِيْهًا مُتَحَرِّرًا، فَضْلًا عَنْ مُجْتَهِدٍ مُسْتَقِلٍ، فَضْلًا عَنْ مُجْتَهِدٍ مُطْلَقٍ، خِلافًا للمُتَمَذْهِبِ بأحَدِ المَذَاهِبِ الأُخْرَى، وسَبَبُ ذَلِكَ أنَّ «المَذْهَبَ الظَّاهِرِيَّ» لم تُدَوَّنْ قَوَاعِدُهُ وضَوَابِطُهُ، ولم تُجْمَعْ سَائِرُ فُرُوْعِهِ الفِقْهِيَّةِ، كَمَا مَرَّ مَعَنَا.
4ـ أنْ يُوَطِّنَ نَفْسَهُ عِنْدَ قِرَاءَةِ «المُحَلَّى» لابنِ حَزْمٍ رَحِمَهُ اللهُ: على الْتِزَامِ السَّكِيْنَةِ، وخَفْضِ جَنَاحِ الرِّفْقِ، وحُسْنِ الظَّنِّ في أهْلِ العِلْمِ السَّابِقِيْنَ، فَإنَّنَا وَجَدْنَا بَعْضًا مِمَّنْ انْتَحَلَ مَذْهَبَ الظَّاهِرِيَّةِ لا يَرْعَوِي ـ للأسَفِ! ـ: مِنَ النَّيْلِ والطَّعْنِ في أهْلِ العِلْمِ، باسْمِ تَعْظِيْمِ الأثَرِ، وتَقْدِيْمِ الدَّلِيْلِ على أقْوَالِ الرِّجَالِ، في غَيْرِهَا مِنْ بَنَاتِ طَبَقٍ، واللهُ الهَادِي إلى سَوَاءِ السَّبِيْلِ!
فاحْذَرْ، فقَلِيْلٌ مَنْ سَلِمَ عِنْدَ قِرَاءَتِهِ لـ«المُحَلَّى» مِنَ النَّقْدِ والتَّجْرِيْحِ، ولا إخَالُكَ إلَّا قَدْ تَتَأثَّرُ ببَسْطَةِ لِسَانِ ابنِ حَزْمٍ رَحِمَهُ اللهُ، وحِدَّةِ رَدِّهِ، وقُوَّةِ لَدِّهِ، واللهُ يَغْفِرُ لَنَا ولَهُ، آمِيْنَ!
الشيخ الدكتور
ذياب بن سعد الغامدي
معالم المذهب الحنبلي
ص 134
|
|
|
|
|