تعظيم الفُتيا في مواسم الحج
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين.
أما بعد، فكلنا يدرك أهمية الحج، لكونه أحد أركان الإسلام، وشعائره العظام.
كما أنه الركن الذي أوجبه الله مرة واحدة في العمر، خلافا لما سواه من الأركان الخمسة، التي لا يسقط وجوبها عن المسلم المكلف، سواءٌ كان وجوبها دائما مستمرا: كتحقيق معنى الشهادتين، أو كان وجوبها خمس مرات في اليوم والليلة: كالصلاة، أو كان وجوبها في العام مرةً واحدة: كصيام شهر رمضان.
كما أننا لا نعلم عبادةً قد اجتمع لشهود أفعالها وتشريع أحكامها مثل ما اجتمع لفريضة الحج، حيث اجتمع لها أكثر من مائة ألف مسلم، لذا فقد شهدها ساداتُ الصحابة، وأهلُ القرى والبوادي والأعراب، وكلُّ من بلغته حجةُ النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن خلال ذلك، يتضح لكل مسلم أن مناسك الحج قد بُيّنت بيانا شافيا، لا زيادة فيها ولا نقصان.
ويدل على ذلك، قوله تعالى: "اليوم أكملت لكم دينكم"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لتأخذوا مناسككم" أخرجه مسلم، وبلفظ عند البيهقي: "خذوا عني مناسككم"، وقوله عليه السلام: "ليبلِّغ الشاهدُ الغائبَ" متفق عليه.
ومن خلال ما جاء ذكره هنا، يظهر للجميع: أنّ مناسك الحج جاءت على منهج التيسير، وتحقيقِ قاعدة رفع الحرج، وغير ذلك مما هو من مقاصد الشريعة التي جاء بها دين الإسلام.
فإذا علم هذا، كان واجبا على أهل العلم والدعاة، لاسيما ممن تصدَّروا للفُتيا في مناسك الحج: أن يَحملُوا المسلمين في أحكام الحج على ما جاء في الكتاب والسنة، وأن يرغّبوهم في اتّباع السنة والأثر.
كما عليهم أن يخبروهم بأنّ موافقةَ حجة النبي صلى الله عليه وسلم: هي أكمل وأفضل وأيسر وأسلم، وأن ما سواها أنقص وأعسر.
كما عليهم ألا يَحملوا الحجَّاجَ على التّرخيص والجائز، إلا عند الاعذار الشرعية: كالجاهل في تقديمه أو تأخيره، ولاسيما في أعمال يوم النحر.
أو كالذي خرج من مزدلفة قبل الفجر، أو ترك المبيت بمنى: كمن كان ساقيا أو سائقا أو مريضا أو مع الضعفة ونحو ذلك.
أو ممن وَكّلَ في الرمي، لاسيما النساء والصبيان ونحوهم ممن له عذر شرعي.
وعليه، نقول: كُلُّ من حَملَ الناسَ على أحكام الترخيص والأقوال الجائزة دون السنة: يعتبر غاشًّا للمسلمين، بل لا يُعدُّ من أهلِ العلم الربانيين، وعليه، فلا يجوزُ تقديمُه في مواسم الحج مفتيًا أو معلّمًا.
لأنه قد تقرّر عند عامة أهل العلم أنّ هناك فرقا ظاهرا بين فعل السنة وفعل الجائز.
فالأول: هو المطلوب شرعا، لأنه اتباعٌ للسنة واقتفاءٌ للأثر.
والثاني: غايته ترخيصٌ قد أجازته الشريعة لأهل الاعذار: كالجاهل، والناسي، والمخطئ، والمريض ونحوهم.
وهذا الجائز هو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم يوم عيد النحر: "افعل ولا حرج" متفق عليه، أي: افعل ولا إثم عليك، لكونك جاهلا أو ناسيا أو مخطئا.
وظاهر هذا الحديث يدل على خطإ فهم بعض الأفاضل من أهل العلم لكونهم خلطوا بين أعمال يوم النحر وبين عموم أعمال الحج، وذلك من خلال كتابه: "افعل ولا حرج".
لذا، فلا يجوز لأحد من أهل العلم أن يُفقّه عوامَ المسلمين بأفعال الحج الجائزة، وأن يصرفهم عن أعمال السنة في الحج!
وما قلت هذا، إلا لأننا وجدنا كثيرا من عوام المسلمين اليوم، لا يسألون في أمور حجهم غالبا إلا عن الأفعال الجائزة، متناسين السؤالَ عن فعلِ السنة، يوضحه ما يلي: أن كثيرا منهم عنده فقهٌ بكثير من ترخُّصات الحج أكثر منها بسنن الحج.
ويوضحه أيضا: أنّ كثيرا من محاضرات الدعاة في مواسم الحج يتعلق أكثرها بتقرير الأفعال الجائزة لا بأفعال السنة، الأمر الذي دفع ببعضهم إلى عدم التفريق بين الحج الجائز وبين الحج الذي جاءت به السنة النبوية.
فمرةً تراه يقرّر مسألة جواز التعجل ليلة مزدلفة وليالي منى، ومرةً يحرّر مسألة تأخير طواف الإفاضة إلى آخر أيام الحج، بحجة الفرار من طواف الوداع.
ومراتٍ تراه يتساهل في الرمي قبل الزوال أيام التشريق، وربما دفع الناسَ بتأخير رمي الجمار كلها في آخر يوم، وهكذا في تفقُّهاتٍ ليس لها حظٌّ من السنة إلا أنها من الأفعال الجائزة التي لم تمنعها الشريعة!
وفوق ذلك، منهم من لا يعرف في مسائل الحج إلا شواذ المسائل، وغرائب الآراء.
ومن هنا، فإننا نعلم يقينا أن العبد مهما جاء بأفعال الحج على السنة: فإن قبوله عند الله مظنون، لأن القبول لابد له من شرطين:
الأول: الإخلاص.
والثاني: المتابعة، وهي موافقة السنة.
فكيف والحالة هذه لمن يُقرّر للمسلمين مخالفةَ السنة، بحجة أنه فعلٌ جائز لا تمنعه الشريعة؟
وأخيرا، فإنني أذكر نفسي وعمومَ المسلمين: بأن اتّباع السنة في الحج هو من تعظيم حرمات الله تعالى، كما قال تعالى: "ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب"، ومفهوم الآية أن مخالفة السنة ليس من تعظيم حرمات الله، وقد قال تعالى: "إنما يتقبل الله من المتقين“.
فإذا كان شرط قبول العبادة التقوى، فكيف بمن يخالف التقوى من خلال عدم تعظيم حرمات الله تعالى؟
فاحذر أخي الحاج من مخالفة السنة مهما بلغ بك الحال إلا من عذر يكون لك فيه حجة عند الله يوم القيامة.
هذا إذا علم الجميع أنّ أفعال الحج هذه الأيام أصبحت يسيرة، لاسيما فيما يتعلق برمي الجمرات، الذي كان يوما من الأيام من أشقِّ أفعال الحج.
وكتبه
الشيخ د/ ذياب بن سعد الغامدي.
(7/ 12 / 1437 )