اعتبارات قَبُولِ الأحاديث الضعيفة
عدد مرات القراءة: 435789
اعْتِبَارَاتُ قَبُولِ الأحَادِيْثِ الضَّعِيْفَةِ
مِنْ خِلالِ مَا مَضَى ذِكْرُهُ؛ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ حَسَرَاتٍ على أدْعِيَاءِ الحَدِيْثِ الَّذِيْنَ تَنَاكَدَ عِلْمُهُم بأبْجَدِيَّاتِ «عِلْمِ العِلَلِ»؛ فَضْلًا عَنْ أغْوَارِهِ وأسْرَارِهِ، فمِنْ هُنَا كَانَ لَهُم تَغْبِيْرٌ مِنْ خِلالِ مُنَاكَفَةِ أحَادِيْثِ كُتُبِ السُّنَّةِ تَضْعِيْفًا ورَدًّا، بحُجَّة وُجُودِ عِلَّةٍ ذَكَرَهَا فُلانٌ وفُلانٌ، ولَوْ كَانَتْ خَفِيَّةً، لا تَصِلُ إلى القَدْحِ المُعْتَبَرِ!
حَتَّى إذَا غَبَرَ الزَّمَانُ، وطَالَ بالنَّاسِ الأمَدُ: انْتَشَرَ الجَهْلُ، وقَلَّ العِلْمُ، وكَثُرَ القُرَّاءُ وقَلَّ الفُقَهَاءُ... وهَكَذَا حَتَّى إذَا تَقَالَلْتَ المُحَدِّثِيْنَ، وتَكَاثَرْتَ المُحْدَثِيْنَ: مَسَّ كَثِيْرًا مِنْ مُحَدِّثِي عَصْرِنَا ـ هَذِهِ الأيَّامَ ـ طَائِفٌ مِنَ الجَهْلِ بمنَاهِجِ المُحَدِّثِيْنَ في مَعْرِفَةِ قَبُوْلِ الأحَادِيْثِ النَّبَويَّةِ ورَدِّهَا؛ ولاسِيَّما فِيْمَا كَتَبُوهُ في دَوَاوِيْنِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ.

لأجْلِ هَذَا؛ فَقَدْ تَظَاهَرَ كَثِيْرٌ مِنْ إخْوانِنَا اليَوْمَ على تَضْعِيْفِ الأحَادِيْثِ النَّبَويَّةِ مُظَاهَرَةً لَيْسَ لهَا سَابِقَةٌ في تَارِيْخِ أئِمَّةِ الحَدِيْثِ، تَحْتَ دَعَاوِي عَرِيْضَةٍ: كتَمْيِيْزِ الصَّحِيْحِ مِنَ الضَّعِيْفِ، ودَعْوَى أنَّ الصَّحِيْحَ يُغْنِي عَنِ الضَّعِيْفِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الدَّعَاوِي الَّتِي ظَاهِرُهَا حَقٌّ، وبَاطِنُهَا دَعَاوِي عَرِيْضَةٌ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ!
وكُلُّنَا يَعْلَمُ الفَرْقَ بَيْنَ الحَدِيْثِ الضَّعِيْفِ المُعْتَبَرِ ضَعْفُهُ، وبَيْنَ الضَّعِيْفِ المَعْرُوفِ وَضْعُهُ، أو فِيْهِ مُتَّهَمٌ، أو غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لا يَخْتَلِفُ أكْثَرُ أهْلِ العِلْمِ في رَدِّهِ، وعَدَمِ الاحْتِجَاجِ بِهِ.
لِذَا؛ فَإنَّكَ تَجِدُ فَرْقًا ظَاهِرًا بَيْنَ المُتَقَدِّمِيْنَ والمُتَأخِّرِيْنَ مِنْ أهْلِ الحَدِيْثِ في طَرِيْقَةِ التَّعَامُلِ مَعَ الأحَادِيْثِ الَّتِي ظَاهِرُهَا الضَّعْفُ، وهُوَ أنَّ غَالِبَ المُتَأخِّرِيْنَ رَدُّوْهَا مِنْ أصْلِهَا، وأسْقَطُوا دَلالاتِهَا، بدَعْوَى وُجُوْدِ عِلَّةٍ قَادِحَةٍ، ولَوْ كَانَتْ خَفِيَّةً، وهُم مَعَ هَذَا يَظُنُّوْنَ أنَّهُم على جَادَّةِ المُتَقَدِّمِيْنَ، وعَلَيْهِ نَصَّبَ بَعْضُهُم خِلافًا بَيْنَ مَنْهَجِ المُتَقَدِّمِيْنَ والمُتَأخِّرِيْنَ!

وما عَلِمَ أكْثَرُهُم أنَّ مَنْهَجَ المُتَقَدِّمِيْنَ: هُوَ في حَقِيْقَتِهِ دَلِيْلٌ لأهْلِ الاعْتِدَالِ في تَعَامُلِهِم مَعَ الأحَادِيْثِ رَدًّا وقَبُولًا، بَلْ إخَالُهُ دَلِيْلًا على قَفْلِ بَابِ التَّضْعِيْفِ أمَامَ المُتَسارِعِيْنَ إلى تَضْعِيْفِ الأحَادِيْثِ الَّتِي لَيْسَ ضَعْفُهَا شَدِيْدًا، أو مُنْكَرًا، أو شَاذًّا، أو نَحْوَهُ مِمَّا لا يَصْلُحُ للاحْتِجَاجِ والاعْتِبَارِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ للجَمِيْعِ.
أمَّا المُتَقَدِّمُونَ فَكَانَ لهُم مَنْهَجٌ دَقِيْقٌ في تَعَامُلِهِم مَعَ قَبُوْلِ الأحَادِيْثِ الضَّعِيْفَةِ والاحْتِجَاجِ بِهَا، وذَلِكَ مِنْ خِلالِ اسْتِضَاءَاتٍ مَنْهَجِيَّةٍ، واعْتِبارَاتٍ حَدِيْثِيَّةٍ لا يُحْسِنُهَا بَعْضُ المُتَأخِّرِيْنَ،
فمِنْ تِلْكُمُ المَنَارَاتِ المَنْهَجِيَّةِ، والاعْتِبَارَاتِ الحَدِيْثِيَّةِ، مَا يَلي باخْتِصَارٍ:
الاعْتِبَارُ الأوَّلُ: أنْ يَكُوْنَ الحَدِيْثُ الضَّعِيْفُ مِنَ الأحَادِيْثِ الَّتِي لَها أصْلٌ صَحِيْحٌ مِنَ القُرْآنِ، أو السُّنَّةِ، أو الإجْمَاعِ، كَمَا هُوَ ظِاهِرُ أكْثَرِ الأحَادِيْثِ الضَّعِيْفَةِ، ولاسِيَّما الَّتِي بَابُهَا الفَضَائِلُ... مَعَ اعْتِبَارِ عَدَمِ مُخَالَفَتِهَا لشَيءٍ مِنَ الحَقِّ الَّذِي جَاءَ ذِكْرُهُ في الكِتَابِ والسُّنَّةِ الصَّحِيْحَةِ، أو غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الاعْتِبَارَاتِ الَّتِي لا يَسَعُهَا هَذَا المقَالُ المُخْتَصَرُ، وقَدْ مَرَّ مَعَنَا بعْضُهُ.
قَالَ ابنُ عَبْدِ البَرِّ في مُقَدِّمَةِ «التَّمْهِيْدِ» (60): «ورُبَّ حَدِيْثٍ ضَعِيْفِ الإسْنَادِ؛ صَحِيْحُ المَعْنَى».
* * *
 
الاعْتِبَارُ الثَّاني: أنْ يَكُونَ الحَدِيْثُ الضَّعِيْفُ في بَابِ الفَضَائِلِ.
فعِنْدَئِذٍ إذَا جَاءَ الحَدِيْثُ الضَّعِيْفُ في بَابِ الفَضَائِلِ، فَيَسِّرْ ولا تُعَسِّرْ، مَا لم يَكُنْ مَوْضُوْعًا، أو شَدِيْدَ الضَّعْفِ، أو مُخَالِفًا لشَيءٍ مِنَ الأُصُولِ.
ويَدُلُّ على هَذَا المَنْهَجِ السَّلَفِيِّ الحَدِيْثيِّ
مَا ذَكَرَهُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ في كِتَابِهِ العُجَابِ «إعْلامِ المُوقِّعِيْنَ» (1/25) عَنِ الأُصُولِ الفِقْهِيَّةِ الَّتِي اعْتَمَدَهَا الإمَامُ أحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ: «الأصْلُ الرَّابِعُ: الأخْذُ بِالمُرْسَلِ والحَدِيثِ الضَّعِيفِ، إذَا لَمْ يَكُنْ في البَابِ شَيْءٌ يَدْفَعُهُ، وهُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ على القِيَاسِ، ولَيْسَ المُرَادُ بِالضَّعِيفِ عِنْدَهُ البَاطِلَ، ولا المُنْكَرَ، ولا مَا في رِوَايَتِهِ مُتَّهَمٌ بِحَيْثُ لا يَسُوغُ الذَّهَابُ إلَيْهِ فَالعَمَلُ بِهِ... ـ ثُمَّ قَالَ ـ: ولِلضَّعِيفِ عِنْدَهُ مَرَاتِبُ، فَإذَا لَمْ يَجِدْ في البَابِ أثَرًا يَدْفَعُهُ، ولا قَوْلَ صَاحِبٍ، ولا إجْمَاعَ على خِلَافِهِ: كَانَ العَمَلُ بِهِ عِنْدَهُ أوْلَى مِنَ القِيَاسِ، ولَيْسَ أحَدٌ مِنَ الأئِمَّةِ إلَّا وهُوَ مُوَافِقُهُ على هَذَا الأصْلِ مِنْ حَيْثُ الجُمْلَةِ، فَإنَّهُ مَا مِنْهُمْ أحَدٌ إلَّا وقَدْ قَدَّمَ الحَدِيثَ الضَّعِيْفَ على القِيَاسِ» انْتَهَى كَلامُهُ.
وقَالَ الفُتُوحِيُّ رَحِمَهُ اللهُ في «شَرْحِ الكَوْكَبِ المُنِيْرِ» (2/573): «وقَالَ الخَلالُ: مَذْهَبُهُ ـ يَعْنِي: الإمَامَ أحْمَدَ ـ أنَّ الحَدِيثَ الضَّعِيفَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مُعَارِضٌ قَالَ بِهِ.
وقَالَ في كَفَّارَةِ وَطْءِ الحَائِضِ: مَذْهَبُهُ في الأحَادِيْثِ، إنْ كَانَتْ مُضْطَرِبَةً، ولَمْ يَكُنْ لَهَا مُعَارِضٌ، قَالَ بِهَا.
وقَالَ أحْمَدُ في رِوَايَةِ عَبْدِ اللهِ: طَرِيقَتِي لَسْتُ أُخَالِفُ مَا ضَعُفَ مِنَ الحَدِيْثِ إذَا لَمْ يَكُنْ في البَابِ مَا يَدْفَعُهُ» انْتَهَى.

وبنَحْوِ هَذَا مَا ذَكَرَهُ الزَّرْكَشِيُّ في «نُكَتِهِ» (2/313): «الثَّالِثُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ عَدَمِ العَمَلِ بالضَّعِيْفِ في الأحْكَامِ، يَنْبَغِي أنْ يُسْتَثْنى مِنْهُ صُوَرٌ:
أحَدُهَا: ألَّا يُوْجَدَ سِوَاهُ.

وقَدْ ذَكَرَ المَاوَرْدِيُّ أنَّ الشَّافِعِيَّ احْتَجَّ بالمُرْسَلِ إذَا لم يُوجَدْ دِلَالَةٌ سِوَاهُ، وقِيَاسُهُ في غَيْرِهِ، ومَنِ الضَّعِيْفِ كَذَلِك.
وقَدْ نُقِلَ عَنِ الإمَامِ أحْمَدَ: أنَّهُ يَعْمَلُ بالضَّعِيْفِ إذَا لم يُوجَدْ في البَابِ غَيْرُهُ، ولم يَكُنْ ثَمَّ مَا يُعَارِضُهُ.
قَالَ الأثْرَمُ: رَأيْتُ أبَا عَبْدِ اللهِ إذَا كَانَ الحَدِيْثُ عَنِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في إسْنَادِهِ شَيْء يَأْخُذُ بِهِ إذَا لم يَجِيء أثْبَتَ مِنْهُ، مِثْلُ حَدِيْثِ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، وإبْرَاهِيْمَ الهَجْريِّ، ورُبمَا أخَذَ بالمُرْسَلِ إذَا لم يَجِدْ خِلَافَهُ.
وقَالَ القَاضِي أبُو يَعْلى: «قَدْ أطْلَقَ أحْمَدُ القَوْلَ في الأخْذِ بِالحَدِيثِ الضَّعِيْفِ».
فَقَالَ مُهَنَّا: «قَالَ أحْمَدُ: «النَّاسُ كُلُّهُم أكْفَاءُ إلَّا الحَائِكَ والحَجَّامَ والكَسَّاحَ»، فَقيْلَ لَهُ تَأْخُذُ بِحَدِيْثِ «كُلِّ النَّاسِ أكْفَاءُ»، وأنْتَ تُضَعِّفُهُ؟ فَقَالَ: «إنَّمَا يُضَعَّفُ إسْنَادُهُ، ولَكِنَّ العَمَلَ عَلَيْهِ».
وكَذَلِكَ قَالَ في رِوَايَة ابْنِ مُشَيْشٍ ـ وقَدْ سَألَهُ عَمَّنْ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ ـ إلى أيِّ شَيءٍ تذْهَبُ في هَذَا؟ فَقَالَ: «إلى حَدِيْثِ حَكِيمِ بنِ جُبَيرٍ»، قُلْتُ: حَكِيمٌ ثَبْتٌ عِنْدَكَ في الحَدِيْثِ؟ قَالَ: «لَيْسَ هُوَ عِنْدِي ثَبْتًا في الحَدِيْثِ».
قَالَ القَاضِي: قَوْلُ أحْمَدَ: «ضَعِيْفٌ»، أيْ: على طَريقَةِ أصْحَابِ الحَدِيْثِ؛ لأنَّهُم يُضَعِّفُونَ بِمَا لا يُوْجِبُ تَضْعِيْفَهُ عِنْدَ الفُقَهَاءِ، كالإرْسَالِ، والتَّدْلِيْسِ، والتَّفَرُّدِ بِزِيَادَةٍ في الحَدِيْثِ.
وقَوْلُهُ: «والعَمَلُ عَلَيْهِ»، مَعْنَاهُ: طَريقَةُ الفُقَهَاءِ.

وقَالَ مُهَنَّا: «سَألْتُ أحْمَدَ عَنْ حَدِيْثِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «أنَّ غَيْلَانَ أسْلَمَ وعِنْدَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ»، فَقَالَ: «لَيْسَ بِصَحِيْحٍ، والعَمَلُ عَلَيْهِ، كَانَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ يَقُولُ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ مُرْسْلًا» انَتْهَى كَلامُ الزَّرْكَشِيِّ رَحِمَهُ اللهُ.
قُلْتُ: إنَّ قَوْلَ أحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ «إنَّمَا يُضَعَّفُ إسْنَادُهُ، ولَكِنَّ العَمَلَ عَلَيْهِ»: فِيْهِ رَدٌّ على كَثِيْرٍ مِنَ المُعَاصِرِيْنَ مِمَّنْ شُغِفَ بتَضْعِيْفِ الأحَادِيْثِ ولو بِوَجْهٍ عَلِيْلٍ!
وبِهَذَا تَعْلَمُ خَطَأ مَا جَنَحَ إلَيْهِ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ بأنَّ المَقْصُوْدَ بالضَّعِيْفِ عِنْدَ الإمَامِ أحْمَدَ: هُوَ الحَسَنُ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ.
بَلِ الضَّعِيْفُ الَّذِي قَصَدَهُ أحْمَدُ: هُوَ الضَّعِيْفُ الاصْطِلاحِيِّ، والمُرَادُ بالاصْطِلاحِيِّ هُنَا: الضَّعِيْفُ اليَسِيْرُ المُعْتَبَرُ في الشَّوَاهِدِ والمُتَابَعَاتِ، واللهُ تَعَالى أعْلَمُ.

وقَالَ الحَافِظُ البَيْهَقِيُّ في «دَلائِلِ النُّبُوَّةِ» (1/32): «فَصْلٌ: ومِمَّا يَجِبُ مَعْرِفَتُهُ في هَذَا البَابِ أنْ تَعْلَمَ: أنَّ الأخْبَارَ الخَاصَّةَ المَرْوِيَّةَ على ثَلاثَة أنْوَاعٍ:
نَوْعٌ اتَّفَقَ أهْلُ العِلْمِ بالحَدِيْثِ على صِحَّتِهِ، وهَذَا على ضَرْبَيْنِ:

أحَدُهُمَا: أنْ يَكُوْنَ مَرْوِيًّا مِنْ أوْجُهٍ كَثِيْرَةٍ، وطُرُقٍ شَتَّى؛ حَتَّى دَخَلَ في حَدِّ الاشْتِهَارِ، وبَعُدَ مَنْ تَوهُّمِ الخَطَأ فِيْهِ، أو تَوَاطَؤ الرِّوَايَة على الكَذِبِ فِيْهِ.
فهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الحَدِيْثِ يَحْصُلُ بِهِ العِلْمُ المُكْتَسَبُ... ثُمَّ ذَكَرَ أمْثِلَةً لهَذَا الضَّرْبِ.

والضَّرْبُ الثَّاني: أنْ يَكُوْنَ مَرْوِيًّا مِنْ جِهَةِ الآحَادِ، ويَكُوْنَ مُسْتَعْمَلًا في الدَّعَوَاتِ، والتَّرْغِيْبِ والتَّرْهِيْبِ، وفي الأحْكَامِ، كَمَا يَكُوْنُ شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ مُسْتَعْمَلَةً في الأحْكَامِ عِنْدَ الحُكَّامِ، وإنْ كَانَ يَجُوْزُ عَلَيْهَا وعلى المُخْبِرِ الخَطأُ والنِّسْيَانُ، لوُرُودِ نَصِّ الكِتَابِ بقَبُوْلِ شَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ إذَا كَانَا عَدْلَيْنِ، ووُرُودِ السُّنَّةِ بقَبُوْلِ خَبَرِ الوَاحِدِ إذَا كَانَ عَدْلًا مُسْتَجْمِعًا لشَرَائِطِ القَبُولِ فِيْمَا يُوْجِبُ العَمَلُ.
ثُمَّ قَالَ: وأمَّا النَّوْعُ الثَّاني مِنَ الأخْبَارِ، فَهِيَ أحَادِيْثُ اتَّفَقَ أهْلُ العِلْمِ بالحَدِيْثِ على ضَعْفِ مَخْرَجِهَا، وهَذَا النَّوْعُ على ضَرْبَيْنِ:

ضَرْبٌ رَوَاهُ مَنْ كَانَ مَعْرُوفًا بوَضْعِ الحَدِيْثِ، والكَذِبِ فِيْهِ.
فهَذَا الضَّرْبُ لا يَكُوْنُ مُسْتَعْمَلًا في شَيءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّيْنِ إلَّا على وَجْهِ التَّلْيِيْنِ.

ثُمَّ قَالَ: وضَرْبٌ لا يَكُوْنُ رَاوِيْهِ مُتَّهَمًا بالوَضْعِ، غَيْرَ أنَّهُ عُرِفَ بِسُوءِ الحِفْظِ، وكَثْرَةِ الغَلَطِ في رِوَايَاتِهِ، أو يَكُوْنُ مَجْهُولًا لم يَثْبُتْ مِنْ عَدَالَتِهِ، وشَرَائِطِ قَبُوْلِ خَبَرِهِ مَا يُوْجِبُ القَبُولَ.
فهَذَا الضَّرْبُ مِنَ الأحَادِيْثِ لا يَكُوْنُ مُسْتَعْمَلًا في الأحْكَامِ، كَمَا لا تَكوْنُ شَهَادَةُ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ مَقْبَوْلَةً عِنْدَ الحُكَّامِ، وقَدْ يُسْتَعْمَلُ في الدَّعَوَاتِ والتَّرْغِيْبِ والتَّرْهِيْبِ، والتَّفْسِيْرِ، والمَغَازِي فِيْمَا لا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ».

ثُمَّ نَقَلَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، أنَّهُ قَالَ: «إذَا رَويْنَا في الثَّوابِ والعِقَابِ وفَضَائِلِ الأعْمَالِ، تَسَاهَلْنَا في الأسَانِيْدِ، وتَسَامَحْنَا في الرِّجَالِ، وإذَا رَوَيْنَا في الحَلالِ والحَرَامِ والأحْكَامِ، تَشَدَّدْنَا في الأسَانِيْدِ، وانْتَقَدْنَا الرِّجَالَ».
ثُمَّ نَقَلَ عَنْ يَحْيَ بنِ سَعِيْدٍ ـ يَعْنِي القَطَّان ـ: «تَسَاهَلُوا في التَّفْسِيْرِ عَنْ قَوْمٍ لا يُوثِّقُونَهُم في الحَدِيْثِ، ثُمَّ ذَكَرَ لَيْثَ بْنَ أبِي سُلَيْمٍ، وجَويْبِرَ بنَ سَعِيْدٍ، والضَّحَّاكَ، ومُحَمَّدَ بنَ السَّائِبِ ـ يَعْنِي الكَلْبِيَّ ـ، وقَالَ: «هَؤلاءِ لا يُحْمَلُ حَدِيْثِهِم، ويُكْتَبُ التَّفْسِيْرُ عَنْهُم».

قَالَ البَيْهَقِيُّ: وإنَّما تَسَاهَلُوا في أخْذِ التَّفْسِيْرِ عَنْهُم؛ لأنَّ مَا فَسَّرُوا بِهِ ألْفَاظَهُ تَشْهَدُ لَهم بِهِ لُغَاتُ العَرَبِ، وإنَّمَا عَمَلُهُم في ذَلِكَ الجَمْعُ والتَّقْرِيْبُ فَقَطُ» انَتْهَى كَلامُ البَيْهَقِيِّ باخْتِصَارٍ.
قَالَ الحَافِظُ ابنُ الصَّلاحِ رَحِمَهُ اللهُ في «شَرْحِ التَّبْصِرَةِ» (1/349): «ولم يَرَوْا فُتْيَا العَالمِ على وَفْقِ حَدِيثٍ حُكمًا مِنْهُ بصِحَّةِ ذَلِكَ الحَدِيْثِ؛ لإمْكَانِ أنْ يَكُوْنَ ذَلِكَ مِنْهُ احْتِيَاطًا، أو لدَلِيْلٍ آخَرَ وَافقَ ذَلِكَ الخَبَرَ».
وقَالَ الحَافِظُ أبو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الحَقِّ الإشْبِيليُّ رَحِمَهُ اللهُ في خُطْبَةِ كِتَابِهِ «الأحْكَامِ الوُسْطَى» (1/66): «ولم أتَعَرَّضْ لإخْرَاجِ الحَدِيْثِ المُعْتَلِّ كُلِّهِ، وإنَّمَا أخْرَجْتُ مِنْهُ يَسِيْرًا مِمَّا عُمِلَ بِهِ، أو بأكْثَرِهِ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ، واعْتُمِدَ عَلَيْهِ، وفُزِعَ عِنْدَ المُحَاجَّةِ إلَيْهِ» انَتْهَى.
قُلْتُ: وهَذِهِ طَرِيْقَةُ أبي دَاوُدَ، والتِّرْمِذِيِّ، والنَّسَائِيِّ، وغَيْرِهِم: فَإنَّهُم يُوْرِدُوْنَ الأحَادِيْثَ الضَّعِيْفَةَ في الأحْكَامِ لأغْرَاضٍ مُتَعَدِّدَةٍ.
ومَشَى على هَذِهِ الطَّرِيْقَةِ ـ إيْرَادُ الحَدِيْثِ الضَّعِيْفِ مَعَ الصَّحِيْحِ والحَسَنِ ـ مَنْ جَاءَ بَعْدَ عَبْدِ الحَقِّ الإشْبِيليِّ رَحِمَهُ اللهُ مِمَّنْ صَنَّفَ في أحَادِيْثِ الأحْكَامِ المُعَلَّقَةِ الأسَانِيْدِ، كالجَدِّ ابنِ تَيْمِيَّةَ في «مُنْتَقَى الأخْبَارِ»، وابنِ رُشْدٍ في «دَلائِلِ الأحْكَامِ»، وابنِ عَبْدِ الهَادِي في «المُحَرَّرِ»، وابنِ حَجَرٍ في «بُلُوغِ المَرامِ»، وغَيْرِهِم مِنْ أصْحَابِ كُتُبِ أحَادِيْثِ الأحْكَامِ.
* * *
الاعْتِبَارُ الثَّالِثُ: أنْ يَكُوْنَ الحَدِيْثُ الضَّعِيْفُ مِنَ الأحَادِيْثِ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا عَمَلُ المُسْلِمِيْنَ جِيْلًا بَعْدَ جِيْلٍ، ومِثْلُ هَذَا كَثِيْرٌ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أهْلِ العِلْمِ.
قَالَ مُهَنَّا: «سَألْتُ أحْمَدَ عَنْ حَدِيْثِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «أنَّ غَيْلَانَ أسْلَمَ وعِنْدَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ»، فَقَالَ: «لَيْسَ بِصَحِيْحٍ، والعَمَلُ عَلَيْهِ، كَانَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ يَقُولُ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ مُرْسْلًا».
فَقَالَ مُهَنَّا: «قَالَ أحْمَدُ: «النَّاسُ كُلُّهُم أكْفَاءُ إلَّا الحَائِكَ والحَجَّامَ والكَسَّاحَ»، فَقيْلَ لَهُ تَأْخُذُ بِحَدِيْثِ «كُلِّ النَّاسِ أكْفَاءُ»، وأنْتَ تُضَعِّفُهُ؟ فَقَالَ: «إنَّمَا يُضَعَّفُ إسْنَادُهُ، ولَكِنَّ العَمَلَ عَلَيْهِ»، كَمَا مَرَّ مَعَنَا آنِفًا مِنْ كَلامِ الزَّرْكَشِيِّ رَحِمَهُ اللهُ.
قُلْتُ: إنَّ قَوْلَ أحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ «إنَّمَا يُضَعَّفُ إسْنَادُهُ، ولَكِنَّ العَمَلَ عَلَيْهِ»: فِيْهِ رَدٌّ على كَثِيْرٍ مِنَ المُعَاصِرِيْنَ مِمَّنْ شُغِفَ بتَضْعِيْفِ الأحَادِيْثِ ولو بِوَجْهٍ عَلِيْلٍ!
فمَنِ اسْتَنْكَفَ عَنْ هَذِهِ الدَّلالاتِ والاعْتِبَارَاتِ في التَّعَامُلِ مَعَ الأحَادِيْثِ الضَّعِيْفَةِ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أئِمَّةُ الحَدِيْثِ، فَسَوْفَ يَقَعُ في مُغَالَطَاتٍ مَنْهَجِيَّةٍ تَدْفَعُهُ ضَرُوْرَةً إلى مُشَارَبَةِ مُحْدَثَاتِ «تَضْعِيْفِ الأحَادِيْثِ»، واللهُ الهَادِي إلى سَوَاءِ السَّبِيْلِ!
انْظُرْ كِتَابَ: «كَشْفِ اللِّثَامِ عَنِ الأحَادِيْثِ الضَّعِيْفَةِ في الأحْكَامِ المَعْمُولِ بِهَا عِنْدَ الأئِمَّةِ الأعْلامِ» للشَّيْخِ سَعِيْدٍ باشَنْفَر، وهُوَ كِتَابٌ جَيِّدٌ في بَابِهِ؛ إلَّا أنَّهُ مُقْتَصِرٌ على الأحَادِيْثِ الَّتِي أعَلَّهَا التِّرْمِذِيُّ، وعَمِلَ بِهَا العُلَمَاءُ أو بَعْضُهُم، كَمَا ذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ نَفْسُهُ.
* * *
الاعْتِبَارُ الرَّابِعُ: أنْ يَكُوْنَ الحَدِيْثُ الضَّعِيْفُ مِنَ الأحَادِيْثِ الَّتِي وَقَعَ الإجْمَاعُ على العَمَلِ بظَاهِرِهَا.
وهَذَا الاعْتِبَارُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، باعْتِبَارِ حُجِّيَّةِ الإجْمَاعِ بغَضِّ النَّظَرِ عَنْ ضَعْفِ الحَدِيْثِ؛ لِذَا كَانَ على مَنْ ظَهَرَ لَهُ ضَعْفُ حَدِيْثٍ في مَسْألَةٍ مِنَ المَسَائِلِ الَّتِي قَدْ وَقَعَ الإجْمَاعُ عَلَيْهَا: ألَّا يَقْتَصِرَ على ضَعْفِ الحَدِيْثِ، بَلْ عَلَيْهِ أنْ يُقَوِّيَ ضَعْفَهُ بدَلالَةِ الإجْمَاعِ، أو أنْ يَذْكُرَ ضَعْفَهُ والإجْمَاعَ القَائِمَ مَعًا؛ لتَبْقَى المَسْألَةُ في أصْلِهَا مَشْرُوعَةً طَلَبًا أو مَنْعًا.
فمِنْ أجْلِ هَذَا؛ فإنِّنَا قَدْ وَجَدْنَا أحَادِيْثَ ضَعِيْفَةً كَثِيْرَةً قَدِ انْجَبَر ضَعْفُهَا بحِكَايَةِ الإجْمَاعِ على دَلالاتِهَا، سَوَاءٌ فِيْمَا يَتَعَلَّقُ بالفَضَائِلِ، أو بالأحْكَامِ الفِقْهِيَّةِ، أو بالمَسَائِلِ العَقَدِيَّةِ.
لِذَا؛ فَإنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّصِيْحَةِ الإيْمَانِيَّةِ: الاقْتِصَارُ على ذِكْرِ ضَعْفِ حَدِيْثِ المَسْألَةِ دُوْنَ ذِكْرِ أصْلِ مَشْرُوعِيَّتِهَا بطَرِيْقِ الإجْمَاعِ الثَّابِتِ.
انْظُرْ كِتَابَ «أحَادِيْثَ ضِعَافٍ وعَلَيْهَا العَمَلُ بغَيْرِ خِلافٍ» للأخِ عَاطِفِ بنِ حَسَنٍ الفَارُوقيِّ، فَهُوَ كِتَابٌ جَيِّدٌ في تَحْرِيْرِ هَذَا الاعْتِبَارِ، فَجَزَاهُ اللهُ خَيْرًا.
* * *
الاعْتِبَارُ الخَامِسُ: أنْ يَكُوْنَ الحَدِيْثُ الضَّعِيْفُ مِنَ الأحَادِيْثِ الَّتِي صَحَّ العَمَلُ بِهَا عِنْدَ الصَّحَابَةِ، أو التَّابِعِيْنَ، وهَذِهِ طَرِيْقَةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللهُ في تَقْوِيَةِ المُرْسَلِ.
قَالَ البُلقِينيُّ في «مَحَاسِنِ الاصْطِلاحِ» (138): «وأطْلَقَ قَوْمٌ مِنَ العُلَمَاءِ عَنِ الشَّافِعِيِّ: أنَّهُ يَحْتَجُّ بالمُرسَلِ إذَا أُسْنِدَ أو أُرْسِلَ مِنْ طَرْيقٍ آخَرَ، أو عَضَدَهُ قِيَاسٌ، أو قَوْلُ صَحَابيٍّ، أو فِعْلُ صَحَابيٍّ، أو يَكُوْنُ قَوْلَ الأكْثَرِيْنَ، أو يُنْشَرُ مِنْ غَيْرِ دَافِعٍ، أو عَمِلَ بِهِ أهْلُ العَصْرِ، زَادَ المَاوَرْدِيُّ: أنَّ المُرْسَلَ يُحتَجُّ بِه إذَا لم تَوْجَدْ دَلالَةٌ سِوَاهُ».
قُلْتُ: مِمَّا لا شَكَّ فِيْهِ أنَّ الإمَامَ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللهُ هُوَ مِنْ أوَائِلِ المُحَدِّثِيْنَ الَّذِيْنَ أصَّلُوا مَسْلَكَ تَقْوِيَةِ الحَدِيْثِ الضَّعِيْفِ، وذَلِكَ مِنْ خِلالِ تَقْوِيَتِهِ للحَدِيْثِ المُرْسَلِ، الَّذِي يُعَدُّ عِنْدَهُ حَدِيْثًا ضَعِيْفًا، على خِلافِ مَنْ سَبَقَهُ مِنَ المُحَدِّثِيْنَ، كالإمَامِ مَالِكٍ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ لأسْبَابٍ، مِنْ أهَمِّهَا عِلْمُهُ بمَخْرَجِهِ، واتِّصَالُهُ مِنْ أوْجُهٍ، وغَيْرُ ذَلِكَ.
ويُوَضِّحُ لَنَا الإمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ مَنْهَجَهُ في تَقْوِيَةِ المُرْسَلِ بكَلامٍ طَوِيْلٍ مُفَصَّلٍ لا تُخْطِئُهُ الحَقِيْقَةُ والصَّوَابُ؛
حَيْثُ قَالَ في كِتَابِهِ «الرِّسَالَةِ» (461) جَوَابًا لِمَنْ قَالَ: فَهَلْ تَقُوْمُ بالحَدِيْثِ المُنْقَطِعِ حُجَّةٌ على مَنْ عَلِمَهُ؟ وهَلْ يَخْتَلِفُ المُنْقَطِعُ؟ أو هُوَ وغَيْرُهُ سَوَاءٌ؟
فقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: «المُنْقَطِعُ مُخْتَلِفٌ: فَمَنْ شَاهَدَ أصْحَابَ رَسُولِ اللهِ مِنَ التَّابِعِيْنَ، فَحَدَّثَ حَدِيْثًا مُنْقَطِعًا عَنِ النَّبِيِّ: اعْتُبِرَ عَلَيْهِ بأُمُورٍ:
مِنْهَا: أنْ يُنْظَرَ إلى مَا أرْسَلَ مِنَ الحَدِيْثِ، فإنْ شَرِكَهُ فِيْهِ الحُفَّاظُ المَأمُونُونَ، فأسْنَدُوهُ إلى رَسُولِ اللهِ بمِثْلِ مَعْنَى مَا رَوَى: كَانَتْ هَذِهِ دِلالَةً على صِحَّةِ مَنْ قَبِلَ عَنْهُ وحِفْظِهِ.
وإنِ انْفَرَدَ بإرْسَالِ حَدِيْثٍ لم يَشْرَكْهُ فِيْهِ مَنْ يُسْنِدُهُ قُبِلَ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ.
ويُعْتَبَرُ عَلَيْهِ بأنْ يُنْظَرَ: هَلْ يُوَافِقُهُ مُرْسَلُ غَيْرِهِ مِمَّنْ قُبِلَ العِلْمُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ رِجَالِهِ الَّذِيْنَ قُبِلَ عَنْهُم؟
فَإنْ وُجِدَ ذَلِكَ كَانَتْ دِلالةً يَقْوَى لَهُ مُرْسَلُهُ، وهِيَ أضْعَفُ مِنَ الأُوْلى.
وإنْ لم يُوْجَدْ ذَلِكَ نُظِرَ إلى بَعْضِ مَا يُرْوَى عَنْ بَعْضِ أصْحَابِ رَسُولِ اللهِ قَولًا لَهُ، فَإنْ وُجِدَ يُوافِقُ مَا رَوَى عَنْ رَسُولِ اللهِ كَانَتْ في هَذِهِ دِلالةٌ على أنَّهُ لم يَأخُذْ مُرْسَلَهُ إلَّا عَنْ أصْلٍ يَصِحُّ إنْ شَاءَ اللهُ.
وكَذَلِكَ إنْ وُجِدَ عَوَامٌّ مِنْ أهْلِ العِلْمِ يُفْتُونَ بمِثْلِ مَعْنَى مَا رَوَى عَنِ النَّبِيِّ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: ثُمَّ يُعْتَبَرُ عَلَيْهِ: بأنْ يَكُوْنَ إذَا سَمَّى مَنْ رَوَى عَنْهُ لم يُسَمِّ مَجْهُولًا، ولا مَرْغُوبًا عَنِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ، فيُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ على صِحَّتِهِ فِيْمَا رَوَى عَنْهُ.
ويَكُوْنَ إذَا شَرِكَ أحَدًا مِنَ الحُفَّاظِ في حَدِيْثِ لم يُخَالِفْهُ، فإنْ خَالَفَهُ وُجِدَ حَدِيْثُهُ أنْقَصَ: كَانَتْ في هَذِهِ دَلائِلُ على صِحَّةِ مَخْرَجِ حَدِيْثِهِ.
ومَتَى مَا خَالَفَ مَا وَصَفْتُ أضَرَّ بحَدِيْثِهِ؛ حَتَّى لا يَسَعْ أحَدًا مِنْهُم قَبُولُ مُرْسَلِهِ.
قَالَ: وإذَا وَجَدَّتَ الدَّلائِلَ بِصِحَّةِ حَدِيْثِهِ بِمَا وَصَفْتُ أحْبَبْنَا أنْ نَقْبَلَ مُرْسَلَهُ، ولا نَسْتَطِيْعُ أنْ نَزْعُمَ أنَّ الحُجَّةَ تَثْبُتُ بِهِ ثُبُوتَهَا بالمُوتَّصِلِ.
وذَلِكَ أنَّ مَعْنَى المُنْقَطِعِ مُغَيَّبٌ:
يَحْتَمِلُ أنْ يَكُوْنَ حُمِلَ عَنْ مَنْ يُرْغَبُ عَنِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ إذَا سُمِّي.
وإنَّ بَعْضَ المُنْقَطِعَاتِ ـ وإنْ وَافَقَهُ مُرْسَلٌ مِثْلُهُ ـ فَقَدْ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُوْنَ مَخْرَجُهَا وَاحِدًا، مِنْ حَيْثُ لَوْ سُمِّيَ لم يُقْبَلْ.
وأنَّ قَوْلَ بَعْضِ أصْحَابِ النَّبِيِّ ـ إذَا قَالَ برَأيِهِ لَوْ وَافَقَهُ ـ يَدُلُّ على صِحَّةِ مَخْرَجِ الحَدِيْثِ، دِلالةً قَوِيَّةً إذَا نُظَرَ فِيْهَا، ويُمْكِنُ أنْ يَكُوْنَ إنَّمَا غَلِطَ بِهِ حَيْنَ سَمِعَ قَوْلَ بَعْضِ أصْحَابِ النَّبِيِّ يُوَافِقُهُ، ويَحْتَمِلَ مِثْلَ هَذَا فِيْمَنْ وَافَقَهُ مِنْ بَعْضِ الفُقَهَاءِ.
فأمَّا مَنْ بَعْدَ كِبَارِ التَّابِعِيْنَ الَّذِيْنَ كَثُرَتْ مُشَاهَدَتُهُم لبَعْضِ أصْحَابِ رَسُولِ اللهِ: فَلا أعْلَمُ مِنْهُم وَاحِدًا يُقْبَلُ مُرْسَلُهُ لأُمُورٍ:

أحَدُهَا: أنَّهُم أشَدُّ تَجَوُّزًا فِيْمَنْ يَرْوُونَ عَنْهُ.
والآخَرُ: أنَّهُم يُوْجَدُ عَلَيْهِم الدَّلائِلُ فِيْمَا أرْسَلُوا بضَعْفِ مَخْرَجِهِ.
والآخَرُ: كَثْرَةُ الإحَالَةِ، كَانَ أمْكَنَ للوَهَمِ وضَعْفِ مَنْ يُقْبَلُ عَنْهُ» انْتَهَى كَلامُهُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى.
قُلْتُ: وكَلامُهُ رَحِمَهُ اللهُ هُنَا لا يَحْتَاجُ إلى مَزِيْدِ بَيَانٍ، ولا إلى تَوْضِيْحِ مَعَانٍ، هَذَا إذَا عَلِمْنَا أنَّ الإمَامَ الشَّافِعِيَّ نَفْسَهُ، قَدْ مَثَّلَ لكَلامِهِ هَذَا بأحَادِيْثَ كَثِيْرَةٍ جِدًّا، بَعْضُهَا في كُتُبِهِ، وبَعْضُهَا فِيْمَا ذَكَرَهُ عَنْهُ أصْحَابُهُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ الشَّيءُ الَّذِي لا مَزِيْدَ عَلَيْهِ.
* * *
الاعْتِبَارُ السَّادِسُ: أنْ يَكُوْنَ الحَدِيْثُ الضَّعِيْفُ مِنَ الأحَادِيْثِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا المَقَاصِدُ الشَّرْعِيَّةُ، أو القَواعِدُ الفِقْهِيَّةُ العَامَّةُ المُعْتَبَرةُ، مِثْلُ حَدِيْثِ الدُّخُولِ بالرِّجْلِ اليُمْنَى والخُرُوجِ باليُسْرَى، كدَخُولِ المَسْجِدِ والبَيْتِ ونَحْوِهِمَا، وكَذَا الاقْتِصَارِ على عَقْدِ أنَامِلِ اليَدِ اليُمْنَى في أذْكَارِ الصَّلاةِ بَعْدَ السَّلامِ.
قُلْتُ: لَقَدْ وَرَدَتْ بَعْضُ الأحَادِيْثِ الدَّالَةِ على مَشْرُوعِيَّةِ الدُّخُولِ بالرِّجْلِ اليُمْنَى والخُرُوجِ باليُسْرَى فِيْمَا حَقُّهُ تَقْدِيْمُ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ، كالمَسْجِدِ والبَيْتِ ونَحْوِهِمَا؛ إلَّا أنَّ بَعْضَهَا لم يَسْلَمْ مِنْ تَضْعِيْفِ بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ؛ لكِنَّهَا أحَادِيْثُ قَدْ تَقْوَى مِنْ وُجُوهٍ اعْتِبَارِيَّةٍ عِنْدَ أهْلِ الحَدِيْثِ، كَمَا أنَّهَا تَتَقَوَّى أيْضًا ببَعْضِ القَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ، الأمْرُ الَّذِي دَفَعَ بَعْضَ أهْلِ العِلْمِ إلى تَصْحِيْحِهَا أو تَحْسِيْنِهَا، كَمَا سَيَأتي ذِكْرُ بَعْضِهِ.
قُلْتُ: ثَبَتَ مِنْ قَاعِدَةِ الشَّرْعِ: أنَّ اليَدَ والرِّجْلَ اليُسْرَى تُشَارِكُ اليُمْنَى فِيْما لا يَتِمُّ إلَّا بذَلِكَ، كالدُّخُولِ للبَيْتِ والمَسْجِدِ، وكالرَّفْعِ في الدُّعَاءِ وعِنْدَ التَّكْبِيْرِ للصَّلاةِ وغَيْرِهِ، ومَا جَازَ فِيْهِ التَّخْيِيْرِ فاليُمْنَى لهَا مِنْهُ التَّكْرِيْمُ، واليُسْرَى لِمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأذَى ونَحْوِهِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ في «المِنْهَاجِ» (3/160): «قَوْلهَا: «كَانَ ﷺ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ في طُهُوْرِهِ إذَا تَطَهَّرَ، وفي تَرَجُّلِهِ إذَا تَرَجَّلَ، وفي انْتِعَالِهِ إذَا انْتَعَلَ»: هَذِهِ قَاعِدَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ في الشَّرْعِ، وهِيَ إنَّ مَا كَانَ مِنْ بَابِ التَّكْرِيمِ والتَّشْرِيفِ: كَلُبْسِ الثَّوْبِ والسَّرَاوِيلِ والخُفِّ ودُخُوْلِ المَسْجِدِ والسِّواكِ والِاكْتِحَال، وتَقْلِيمِ الأظْفَارِ، وقَصِّ الشَّارِبِ، وتَرْجِيْلِ الشَّعْرِ وهُوَ مَشْطُهُ، ونَتْفِ الإبِطِ، وحَلْقِ الرَّأْسِ، والسَّلَامِ مِنَ الصَّلَاةِ، وغَسْلِ أعْضَاءِ الطَّهَارَةِ، والخُرُوجِ مِنَ الخَلَاء، والأكْلِ والشُّرْبِ، والمُصَافَحَةِ، واسْتِلَامِ الحَجَرِ الأسْودِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ في مَعْنَاهُ: يُسْتَحَبُّ التَّيَامُنُ فِيْهِ.
وأمَّا مَا كَانَ بِضِدِّهِ: كَدُخُولِ الخَلَاءِ والخُرُوجِ مِنَ المَسْجِد والامْتِخَاطِ والِاسْتِنْجَاءِ وخَلْعِ الثَّوْبِ والسَّرَاوِيلِ والخُفِّ ومَا أشْبَهَ ذَلِكَ، فَيُسْتَحَبُّ التَّيَاسُرُ فِيهِ، وذَلِكَ كُلُّهُ بِكَرَامَةِ اليَمِينِ وشَرَفِهَا، واللهُ أعْلَمُ» انْتَهَى.
وقَدْ حَرَّرَ ابنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ هَذِهِ القَاعِدَةَ بِما فِيْهِ كِفَايَةٌ ومَقْنَعٌ، وذَلِكَ في التَّعَامُلِ مَعَ الأفْعَالِ باعْتِبَارِ اسْتِعْمالِ اليُمْنَى أو اليُسْرَى، كمَا يَلي:

قَالَ رَحِمَهُ اللهُ في «مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى» (21/108): «والأفْعَالُ نَوْعَانِ: أحَدُهُمَا: مُشْتَرِكٌ بَيْنَ العُضْويْنِ.
والثَّانِي: مُخْتَصٌّ بِأحَدِهِمَا.
وقَدْ اسْتَقَرَّتْ قَواعِدُ الشَّرِيعَةِ على أنَّ الأفْعَالَ الَّتِي تَشْتَرِكُ فِيهَا اليُمْنَى واليُسْرَى: تُقَدَّمُ فِيهَا اليُمْنَى إذَا كَانَتْ مِنْ بَابِ الكَرَامَةِ؛ كَالوُضُوءِ والغُسْلِ والِابْتِدَاءِ بِالشِّقِّ الأيْمَنِ في السِّواكِ؛ ونَتْفِ الإبِطِ؛ وكَاللِّبَاسِ؛ والِانْتِعَالِ والتَّرَجُّلِ ودُخُولِ المَسْجِدِ والمَنْزِلِ والخُرُوجِ مِنَ الخَلَاءِ ونَحْوِ ذَلِكَ.
وتُقَدَّمُ اليُسْرَى في ضِدِّ ذَلِكَ كَدُخُولِ الخَلَاءِ وخَلْعِ النَّعْلِ والخُرُوجِ مِنَ المَسْجِدِ.
والَّذِي يَخْتَصُّ بِأحَدِهِمَا: إنْ كَانَ مِنْ بَابِ الكَرَامَةِ كَانَ بِاليَمِينِ كَالأكْلِ والشُّرْبِ والمُصَافَحَةِ؛ ومُنَاولَةِ الكُتُبِ وتَنَاوُلِهَا ونَحْوِ ذَلِكَ.
وإنْ كَانَ ضِدَّ ذَلِكَ كَانَ بِاليُسْرَى كَالاسْتِجْمَارِ ومَسِّ الذَّكَرِ والِاسْتِنْثَارِ والِامْتِخَاطِ ونَحْوِ ذَلِكَ» انْتَهَى، وهَذَا كَلامٌ جَيِّدٌ نَفِيْسٌ قَدْ لا تَجِدُهُ عِنْدَ غَيْرِهِ!

قُلْتُ: وأيًّا كَانَ الأمْرُ؛ فَإنَّ مَا وَرَدَ مَنِ الأحَادِيْثِ الضَّعِيْفَةِ الدَّالَةِ على الاقْتِصَارِ على عَقْدِ الأنَامِلِ باليَدِ اليُمْنَى، والدُّخُولِ بالرِّجْلِ اليُمْنَى للمَسْجِدِ والبَيْتِ، قَدْ يَنْجَبِرُ ضَعْفُهَا بِمَا ذَكَرْنَاهُ.
ومَعَ هَذَا؛ فإنَّ مِمَّا يُسْتَأنَسُ بِهِ في عُمُوْمِ العَمَلِ باليَدِ اليُمْنَى، ولاسِيَّما فِيْما يَجُوْزُ ويُخَيَّرُ فِيْهِ العَبْدُ عِنْدِ الاسْتِعْمَالِ: عُمُوْمُ قَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهُا أنَّها قَالَتْ
: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ مَا اسْتَطَاعَ في شَأْنِهِ كُلِّهِ في طُهُورِهِ وتَرَجُّلِهِ وتَنَعُّلِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وفي رِوَايَةٍ: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ».
ومِمَّنْ احْتَجَّ بحَدِيْثِ الدُّخُولِ بالرِّجْلِ اليُمْنَى إلى المَسْجِدِ ونَحْوِهِ، البُخَارِيُّ وغَيْرُهُ مِنْ أهْلِ العِلْمِ.
كَمَا هُوَ ظَاهِرُ تَبْوِيْبِ البُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللهُ في «صَحِيْحِهِ»: «بَابُ التَّيَمُّنِ في دُخُولِ المَسْجِدِ وغَيْرِهِ»، ثُمَّ أعْقَبَهُ بقَوْلِهِ: «وكَانَ ابنُ عُمَرَ يَبْدَأُ برجِلْهِ اليُمْنَى، فَإذَا خَرَجَ بَدَأ برِجْلِهِ اليُسْرَى».

قَالَ الحَافِظُ ابنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ في «فَتْحِ البَارِي» (3/191): «وقَدْ سَبَقَ هَذَا الحَدِيْثُ في «بَابِ: التَّيَمُّنِ في الوُضُوءِ والغُسْلِ»، وبَسَطْنَا القَوْلَ عَلَيْهِ هُنَاكَ، أنَّهُ يَدُلُّ على تَقْدِيْمِ اليُمْنَى في الأفْعَالِ الشَّرِيْفَةِ، واليُسْرَى فِيْمَا هُوَ بخِلافِ ذَلِكَ، فالدُّخُولُ إلى المَسْجِدِ مِنْ أشْرَفِ الأعْمَالِ، فيَنْبَغِي تَقْدِيْمُ الرِّجْلِ اليُمْنَى فِيْهِ كتَقْدِيْمِهَا في الانْتِعَالِ، والخُرُوجُ مِنْهُ بالعَكْسِ، فيَنْبَغِي تَأخِيْرُ اليُمْنَى فِيْهِ، كتَأخِيْرِهَا في خَلْعِ النَّعْلَيْنِ.
وأمَّا مَا ذَكَرَهُ عَنِ ابنِ عُمَرَ تَعْلِيْقًا، ورَوَى شَدَّادُ أبو طَلْحَةَ الرَّاسِبيُّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بنِ قُرَّةَ، عَنْ أنَسِ بنِ مَالِكٍ، أنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «مِنَ السُّنَّةِ إذَا دَخَلْتَ المَسْجِدَ أنْ تَبْدَأ برِجْلِكَ اليُمْنَى، وإذَا خَرَجْتَ أنْ تَبْدَأ برِجْلِكَ اليُسْرَى» خَرَّجَهُ الحَاكِمُ، وقَالَ: صَحِيْحٌ على شَرْطِ مُسْلِمٍ، وخَرَّجَهُ البَيْهَقِيُّ، وقَالَ : «تَفَرَّدَ أبو طَلْحَةَ، ولَيْسَ بالقَويِّ».
وسُئِلَ الدَّارَقُطنيُّ عَنْهُ، فَقَالَ : «يُعْتَبَرُ بِهِ»، وخَرَّجَهُ لَهُ مُسْلِمٌ.
ورُوِيَ عَنْ أنَسٍ مِنْ وَجْهٍ أخَرَ أضَّعْفَ مِنْ هَذَا، مِنْ فِعْلِهِ، ولم يَقُلْ فِيْهِ : «مِنَ السُّنَّةِ» انْتَهَى.

وقَالَ ابنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ في «فَتْحِ البَارِي» (1/523) بَعْدَ أنْ سَاقَ حَدِيْثَ أنَسٍ السَّابِقِ: «والصَّحِيحُ أنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ مِنَ السُّنَّةِ كَذَا: مَحْمُولٌ على الرَّفْعِ؛ لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ حَدِيثُ أنَسٍ على شَرْطِ المُصَنّف، أشَارَ إلَيْهِ بَأثَرِ بنِ عُمَرَ.
وعُمُومُ حَدِيثِ عَائِشَةَ يَدُلُّ على البَدَاءَةِ بِاليَمِينِ في الخُرُوجِ مِنَ المَسْجِدِ أيْضًا، وَيُحْتَمَلُ أنْ يُقَالَ في قَوْلِهَا: «مَا اسْتَطَاعَ» احْتِرَازٌ عَمَّا لا يُسْتَطَاعُ فِيهِ التَّيَمُّنُ شَرْعًا: كَدُخُولِ الخَلَاءِ، والخُرُوجِ مِنَ المَسْجِدِ، وكَذَا تَعَاطِي الأشْيَاءِ المُسْتَقْذَرَةِ بِاليَمِينِ: كَالِاسْتِنْجَاءِ، والتَّمَخُّطِ.
وعَلِمَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا حُبَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا ذَكَرَتْ، إمَّا بِإخْبَارِهِ لَهَا بِذَلِكَ، وإمَّا بِالقَرَائِنِ، وقَدْ تَقَدَّمَتْ بَقِيَّةُ مَبَاحِثِ حَدِيثِهَا هَذَا في بَاب التَّيَمُّنِ فِي الوُضُوءِ والغَسْلِ» انْتَهَى.

وقَالَ الألبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ في «الثَّمَرِ المُسْتَطَابِ» (1/601): «أنْ يَبْتَدِئ دُخُولَهُ بالرِّجْلِ اليُمْنَى، فإنَّ ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ، كَمَا قَالَ أنَسُ بنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «مِنَ السُّنَّةِ إذَا دَخَلْتَ المَسْجِدَ أنْ تَبْدَأ برِجْلِكَ اليُمْنَى، وإذَا خَرَجْتَ أنْ تَبْدَأ برِجْلِكَ اليُسْرَى».
ثُمَّ قَالَ: «والحَقُّ مَا قَالَهُ الحَاكِمُ: أنَّهُ على شَرْطِ مُسْلِمٍ؛ لكِنَّ الرَّاسِبيَّ هَذَا مُتَكَلَّمٌ فِيْهِ، فيَنْزُلُ حَدِيْثُهُ عَنْ رُتْبَةِ الصَّحِيْحِ إلى مَنْزِلَةِ الحَسَنِ، فَقَدْ
قَالَ فِيْهِ الذَّهَبيُّ إنَّهُ: «صَالِحُ الحَدِيْثِ»، وقَالَ الحَافِظُ في «التَّقْرِيْبِ»: «إنَّهُ صَدُوقٌ يُخْطِيء».
وأوْرَدَ حَدِيْثَهُ هَذَا في «الفَتْحِ» (1/415)، ولم يُضَعِّفْهُ، فالحَدِيْثُ حَسَنٌ، ولَهُ شَاهِدٌ مَوْقُوفٌ، فَقَالَ البُخَارِيُّ: «بَابُ التَّيَمُّنِ في دُخُولِ المَسْجِدِ وغَيْرِهِ، وكَانَ ابنُ عُمَرَ يَبْدَأُ برجِلْهِ اليُمْنَى، فَإذَا خَرَجَ بَدَأ برِجْلِهِ اليُسْرَى، هَكَذَا أخْرَجَهُ تَعْلِيْقًا» انْتَهَى.

قُلْتُ: ومِنْ أمْثِلَةِ تَقْوِيَةِ الحَدِيْثِ الضَّعِيْفِ بشَيءٍ مِنَ القَوَاعِدِ الفِقْهِيَّةِ المُتَّفَقِ عَلَيْهَا، حَدِيْثُ: «لا ضَرَرَ، ولا ضِرَارَ» أخْرَجَهُ ابنُ مَاجَه، وغَيْرُهُ.
وقَدْ حَسَّنَهُ النَّووِيُّ رَحِمَهُ اللهُ في «الأرْبَعِيْنَ النَّوَوِيَّةِ»، وتَابَعَهُ ابنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ في «جَامِعِ العُلُومِ والحِكَمِ» بقَوْلِهِ: «وقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ: أنَّ بَعْضَ طُرُقِهِ تُقَوَّى ببَعْضٍ، وهُوَ كَمَا قَالَ».

ثُمَّ قَالَ أيْضًا: «وقَدِ اسْتَدَلَّ الإمَامُ أحْمَدَ بِهَذَا الحَدِيْثِ، وقَالَ: قَالَ النَّبيُّ ﷺ: «لا ضَرَرَ، ولا ضِرَارَ»، وقَالَ أبو عَمْرو بنِ الصَّلاحِ: هَذَا الحَدِيْثُ أسْنَدَهُ الدَّارَقُطْنيُّ مِنْ وُجُوهٍ، ومَجْمُوعُهَا يُقَوِّي الحَدِيْثَ ويُحَسِّنُهُ، وقَدْ تَقَبَّلَهُ جَمَاهِيْرُ أهْلِ العِلْمِ، واحْتَجُّوا بِهِ، وقَوْلُ أبي دَاوُدَ: إنَّهُ مِنَ الأحَادِيْثِ الَّتِي يَدُوْرُ الفِقْهُ عَلَيْهَا، يُشْعِرُ بكَوْنِهِ غَيْرَ ضَعِيْفٍ، واللهُ أعْلَمُ» انْتَهَى.
هَذَا إذَا عَلِمْنَا: أنَّ هَذَا الحَدِيْثَ يُمَثِّلُ إحْدَى القَوَاعِدِ الكُبْرَى المُتَّفَقِ عَلَيْهَا، وقَدْ يُعَبِّرُ بَعْضُهُم عَنْهَا بقَاعِدَةِ: «الضَّرَرُ يُزَالُ»، وسَيَأتي لتَخْرِيْجِ هَذَا الحَدِيْثِ بَعْضُ التَّفْصِيْلِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى.
وهَذَا وغَيْرُهُ، لا نَجِدُهُ عِنْدَ بَعْضِ أهْلِ عَصْرِنَا، يَوْمَ قَامُوا بإسْقَاطِ هَذَا الحَدِيْثِ، وغَيْرِهِ مِنَ الأحَادِيْثِ الَّتِي ظَنَّوْهَا ضَعِيْفَةً في كِتَابِ «الأرْبَعِيْنَ النَّووِيَّةِ»، وعَلَيْهِ أعْرَضُوا عَنْ شَرْحِهَا!
والمَقْصُودُ بالحَدِيْثِ الضَّعِيْفِ هُنَا؛ مَا كَانَ ضَعْفُهُ يَسِيْرًا مِمَّا تَصْلُحُ تَقْوِيَتُهُ بشَيءٍ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ ومَقَاصِدِهِ، واللهُ تَعَالى أعْلَمُ.
* * *
الاعْتِبَارُ السَّابِعُ: أنْ يَكُوْنَ الحَدِيْثُ الضَّعِيْفُ مِنَ الأحَادِيْثِ الَّتِي صَحَّحَهَا أو حَسَّنَهَا بَعْضُ أئِمَّةِ الحَدِيْثِ مِمَّا جَرَى فِيْهَا الخِلافُ.
وعَلَيْهِ فَلَيْسَ اجْتِهَادُ أحَدِهِم أوْلَى مِنَ الآخَرِ؛ لِذَا كَانَ على أرْبَابِ التَّضْعِيْفِ أنْ يَتَرَيَّثُوا عَنْ تَضْعِيْفِ بَعْضِ الأحَادِيْثِ المُتَنَازِعِ في تَضْعِيْفِهَا بَيْنَ أئِمَّةِ الحَدِيْثِ قَدِيْمًا، لاسِيَّما المُشْتَهِرَةِ والمُتَدَاوِلَةِ مِنْهَا بَيْنَ عُمُومِ المُسْلِمِيْنَ!

قَالَ الحَافِظُ الذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ في «المُوْقِظَةِ» (28): «ثُمَّ لا تَطْمَعْ بَأنَّ للحَسَنِ قَاعِدَةً تَنْدَرِجُ كُلُّ الأحَادِيْثِ الحِسَانِ فِيْهَا، فَأنَا على إيَاسٍ مِنْ ذَلِكَ! فَكَمْ مِنْ حَدِيْثٍ تَرَدَّدَ فِيْهِ الحُفَّاظُ: هَلْ هُوَ حَسَنٌ، أو ضَعِيْفٌ، أو صَحِيْحٌ؟
بَلِ الحَافِظُ الوَاحِدُ يَتَغَيَّرُ اجْتِهَادُهُ في الحَدِيْثِ الوَاحِدِ: فيَوْمًا يَصِفُهُ بالصِّحَّةِ، ويَوْمًا يَصِفُه بالحُسْنِ، ولَرُبَّما استَضْعَفَهُ!
وهَذَا حَقٌّ، فَإنَّ الحَدِيْثَ الحَسَنَ يَسْتَضْعِفُهُ الحَافِظُ عَنْ أنْ يُرَقِّيَهَ إلى رُتبةِ الصَّحِيْحِ، فبِهَذَا الاعْتِبَارِ فِيْهِ ضَعْفٌ مَّا، إذِ الحَسَنُ لا يَنْفَكُّ عَنْ ضَعْفٍ مَّا، ولَوِ انْفَكَّ عَنْ ذَلِكَ؛ لصَحَّ باتِّفَاقٍ» انَتَهَى.

وقَالَ أبو بَكْرٍ الحَازِميُّ في «شُرُوطِ الأئِمَّةِ الخَمْسَةِ» (173): «ثُمَّ يَنْبَغِي أنْ يُعْلَمَ أنَّ جِهَاتَ الضَّعْفِ مُتَبَايِنَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ، وأهْلُ العِلْمِ مُخْتَلِفُونَ في أسْبَابِهِ.
أمَّا الفُقَهاءُ؛ فأسْبَابُ الضَّعْفِ عِنْدَهُم مَحْصُورَةٌ، وجُلُّهَا مَنُوطٌ بمُرَاعَاةِ ظَاهِرِ الشَّرْعِ، وعِنْدَ أئِمَّةِ النَّقْلِ أسْبَابٌ أٌخَرُ مَرْعِيَّةٌ عِنْدَهُم، وهِيَ عِنْدَ الفُقَهَاءِ غَيْرُ مُعْتَبَرةٍ» انَتْهَى.
وقَالَ أيْضًا: (182): «ثُمَّ أئِمَّةُ النَّقْلِ أيْضًا على اخْتِلافِ مَذَاهِبِهِم، وتَبَايُنِ أحْوالِهِم في تَعَاطِي اصْطِلاحَاتِهِم: يَخْتَلِفُون في أكْثَرِهَا، فَرُبَّ رَاوٍ هُوَ مَوْثُوقٌ بِهِ عِنْدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ مَهْدِيٍّ، ومَجْرُوحٌ عِنْدَ يَحْيَى بنِ سَعِيْدٍ القَطَّانِ، وبالعَكْسِ، وهُمَا إمَامَانِ عَلَيْهِمَا مَدارُ النَّقْدِ في النَّقْلِ، ومِنْ عِنْدِهِمَا يُتَلَقَّى مُعْظَمُ شَأنِ الحَدِيْثِ» انَتْهَى.

وقَالَ الصَّنْعانيُّ في «إرْشَادِ النُّقَّادِ إلى تَيْسِيْرِ الاجْتِهَادِ» (108): «قَدْ يخْتَلفُ كَلَامُ إمَامَيْنِ مِنْ أئِمَّةِ الحَدِيْثِ، فيُضَعِّفُ هَذَا حَدِيْثًا، وهَذَا يُصَحِّحهُ، ويَرْمِي هَذَا رَجُلًا مِنَ الرُّوَاةِ بِالجرْحِ، وآخَرُ يُعَدِّلُهُ، فَهَذَا مِمَّا يُشْعِرُ بِأنَّ التَّصْحِيْحَ ونَحْوَهُ مِنْ مَسَائِلِ الاجْتِهَادِ الَّذِي اخْتَلَفَتْ فِيْهِ الآرَاءُ.
فَجَوَابُهُ: أنَّ الأمْرَ كَذَلِكَ، أيْ: أنَّهُ قَدْ تخْتَلِفُ أقْوَالُهُم، فَإنَّهُ قَالَ مَالِكٌ في ابْنِ إسْحَاقَ: إنَّهُ دَجَّالٌ مِنَ الدَّجَاجِلَةِ، وقَالَ فِيْهِ شُعْبَة: إنَّهُ أمِيْرُ المُؤمنِينَ في الحَدِيْثِ، وشُعْبَةُ إمَامٌ لا كَلَامَ في ذَلِكَ، وإمَامَةُ مَالِكٍ في الدِّيْنِ مَعْلُومَةٌ لا تحْتَاجُ إلَى بُرْهَانٍ، فَهَذَانِ إمَامَانِ كَبِيْرَانِ اخْتَلَفَا في رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْ رُوَاةِ الأحَادِيْثِ.
ويتَفَرَّعُ على هَذَا الاخْتِلَافِ في صِحَّةِ حَدِيْثٍ مَنْ رِوَايَة ابْنِ إسْحَاقَ، وفي ضَعْفِهِ؛ فَإنَّهُ قَدْ يَجْدُ العَالِمُ المُتَأخِّرُ عَنْ زَمَانِ هَذَيْنِ الإمَامَيْنِ كَلَامَ شُعْبَةَ وتَوْثِيْقَهُ لابنِ إسْحَاقَ؛ فيُصَحِّحُ حَدِيثًا يَكُوْنُ مِنْ رِوَايَة ابْنِ إسْحَاق، قَائِلًا: قَدْ ثبتَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ إمَامٍ مِنْ أئِمَّةِ الدِّيْنِ، وهُوَ شُعْبَةُ: بِأنَّ ابْنَ إسْحَاقَ حُجَّةٌ في رِوَايَتِهِ، وهَذَا خَبَرٌ مِنْ شُعْبَةَ يَجِبُ قَبُولُهُ.
وقَدْ يَجِدُ العَالِمُ الآخَرُ كَلَامَ مَالِكٍ، وقَدْحَهُ في ابْنِ إسْحَاقَ ... ويَرَى حَدِيْثًا مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ؛ فيُضَعِّفُ الحَدِيْثَ لذَلِكَ قَائِلًا قَدْ رَوَى لي إمَامٌ وهُوَ مَالِكٌ: بِأنَّ ابْنَ إسْحَاقَ غَيْرُ مَرضِيِّ الرِّوَايَةِ، ولَا يُسَاوِي فِلْسًا؛ فَيَجِبُ رَدُّ خَبَرٍ فِيْهِ ابْنُ إسْحَاقَ، فبِسَبَبِ هَذَا الاخْتِلَافِ حَصَلَ اخْتِلَافُ الأئِمَّةِ في التَّصْحِيْحِ والتَّضْعِيْفِ المُتَفَرِّعَيْنِ عَنِ اخْتِلَافِ مَا بَلغهُم مِنْ حَالِ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وكُلُّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلى الرِّوَايَةِ لا إلى الدِّرَايَةِ، فَهُوَ نَاشِئٌ عَنِ اخْتِلَافِ الأخْبَارِ، فَمَنْ صَحَّحَ أو ضَعَّفَ، فَلَيْسَ عَنْ رَأيٍ ولا اسْتِنْبَاطٍ، كَمَا لا يَخْفَى، بَلْ عَمِلَ بالرِّوَايَةِ.
وكُلٌّ مَنِ المُصَحِّحِ والمُضَعِّفِ مُجْتَهِدٌ عَامِلٌ بِرِوَايَةِ عَدْلٍ، فَعَرَفْتَ أنَّ الِاخْتِلَافَ في ذَلِكَ لَيْسَ مَدَارُهُ على الرَّأي، ولَا هُوَ مِنْ أدِلَّةِ أنَّ مَسْألَةَ التَّصْحِيْحِ وضِدِّهِ اجْتِهَادٌ، نَعَم وقَدْ يَأتِي مَنْ لَهُ فُحُولَةٌ ونَقَادَةٌ ودِرَايَةٌ بحقَائِقِ الأُمُورِ، وحُسْنٌ وسِعَةُ اطِّلَاعٍ على كَلَامِ الأئِمَّةِ، فَإنَّهُ يَرْجِعُ إلى التَّرْجِيحِ بَيْنَ التَّعْدِيلِ والتَّجْرِيحِ، فَينْظُرْ في مِثْلِ هَذِهِ المَسْألَةِ إلى كَلَامِ الجَارِحِ ومُخَرِّجِهِ فيَجِدُهُ كَلَامًا خَرَجَ مَخْرَجَ الغَضَبِ الَّذِي لا يَخْلُو عَنْهُ البَشَرُ، ولا يَحْفَظُ لِسَانَهُ حَالَ حُصُولِهِ، إلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللهُ» انَتْهَى.

وقَالَ الألْبَانيُّ في «الإرْوَاءِ» (3/363): «وإنَّ مِمَّا يَنْبَغِي ذِكْرُهُ بِهَذِهِ المُنَاسَبَةِ: أنَّ الحَدِيْثَ الحَسَنَ لغَيْرِهِ, وكَذَا الحَسَنَ لذَاتِهِ مِنْ أدَقِّ عُلُومِ الحَدِيْث وأصْعَبِهَا؛ لأنَّ مَدَارَهُمَا على مَنِ اخْتَلَفَ فِيْهِ العُلَمَاءُ مِنْ رُوَاتِهِ, مَا بَيْنَ مُوَثِّقٍ ومُضَعِّفٍ, فَلا يَتَمَكَّنُ مِنَ التَّوفِيْقِ بَيْنَهَا, أو تَرْجِيْحِ قَوْلٍ على الأقْوَالِ الأُخْرَى, إلَّا مَنْ كَانَ على عِلْمٍ بأُصُولِ الحَدِيْثِ، وقَوَاعِدِهِ, ومَعْرِفَةٍ قَوِيَّةٍ بعِلْمِ الجَرْحِ والتَّعْدِيْلِ، ومَارَسَ ذَلِكَ عَمَلِيًّا مُدَّةً طَوِيْلَةً مِنْ عُمُرِهِ, مُسْتَفِيْدًا مِنْ كُتُبِ التَّخْرِيْجَاتِ، ونَقْدِ الأئِمَّةِ النُّقَّادِ، عَارِفًا بالمُتَشَدِّدِيْنَ مِنْهُم والمُتَسَاهِلِيْنَ, ومَنْ هُم وَسَطٌ بَيْنَهُم؛ حَتَّى لا يَقَعَ في الإفْرَاطِ والتَّفْرِيْطِ, وهَذَا أمْرٌ صَعْبٌ قَلَّ مَنْ يَصِيْرُ لَهُ, ويَنَالُ ثَمَرَتَهُ, فَلا جَرَمَ أنْ صَارَ هَذَا العِلْمُ غَرِيْبًا بَيْنَ العُلَمَاءِ، واللهُ يَخْتَصُّ بفَضْلِهِ مَنْ يَشَاءُ».
* * *
الاعْتِبَارُ الثَّامِنُ: أنْ يَكُوْنَ الحَدِيْثُ الضَّعِيْفُ مِنَ الأحَادِيْثِ الَّتِي أفْتَى بِهَا إمَامٌ مُعْتَبَرٌ، أو عَمِلَ بظَاهِرِهَا عِنْدَ الاحْتِجَاجِ.
وهَذِهِ أيْضًا طَرِيْقَةُ الشَّافِعيُّ رَحِمَهُ اللهُ في تَقْوِيَةِ المُرْسَلِ، كَمَا مَرَّ مَعَنَا.

قَالَ الشَّافِعيُّ رَحِمَهُ اللهُ في «الرِّسَالَةِ» (463): «وإنْ لم يُوجَدْ ذَلِكَ (يَعْنِي: المُرْسَلُ) نُظر إلى بَعْضِ ما يُرْوَى عن بَعْضِ أصْحَابِ رَسُولِ اللهِ قَوْلًا لَهُ، فإنْ وُجِدَ يُوَافِقُ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ كَانَتْ في هَذِهِ دِلالةٌ على أنَّهُ لم يَأخُذْ مُرْسَلَهُ إلَّا عَنْ أصْلٍ يَصِحُّ إنْ شَاءَ اللهُ.
وكذَلِكَ إنْ وُجِدَ عَوامُّ مِنْ أهْلِ العِلْمِ يُفْتُونَ بمِثْلِ مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ» انْتَهَى.

قُلْتُ: إنَّ فُتْيَا أو احْتِجَاجَ الإمَامِ المُعْتَبَرِ ـ ولاسِيَّما مِنْ أهْلِ الحَدِيْثِ ـ بالحَدِيْثِ المُتَنَازَعِ في ضَعْفِهِ، يُعْتَبَرُ دِلالَةً وقَرِيْنَةً على تَقْوِيَةِ الحَدِيْثِ، الأمْرُ الَّذِي يَدُلُّ على إخْراجِهِ مِنْ دَائِرَةِ الرَّدِّ إلى دَائِرَةِ القَبُولِ، واللهُ تَعَالى أعْلَمُ.
* * *
الاعْتِبَارُ التَّاسِعُ: أنْ يَكُوْنَ الحَدِيْثُ الضَّعِيْفُ مِنَ الأحَادِيْثِ الَّتِي لَيْسَ في البَابِ غَيْرُهَا، وهِيَ الأحَادِيْثُ الَّتِي يَقُوْلُ عَنْهَا بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: «وهَذَا أصَحُّ شَيءٍ في البَابِ».
قُلْتُ: وهَذَا القَوْلُ مِنْهُم لا يَدُلُّ على مُطْلَقِ صِحَّةِ الحَدِيْثِ، بَلْ يَدُلُّ على أنَّ هَذَا الحَدِيْثَ أجْوَدُ شَيءٍ في هَذَا البَابِ، فَقَدْ يَكُوْنُ صَحِيْحًا، وقَدْ يَكُوْنُ ضَعِيْفًا، وهُوَ الغَالِبُ.
أمَّا إذَا كَانَ ضَعِيْفًا: فَهُم يُرِيْدُوْنَ بِهِ أنَّهُ الحَدِيْثُ الَّذِي يَدُوْرُ عَلَيْهِ حُكْمُ البَابِ مِمَّا لَيْسَ عِنْدَهُم غَيْرُهُ؛ لِذَا كَانُوا يَتَسَامَحُونَ في ذِكْرِه، ولا يَتَحَاشَوْنَ مِنَ الاحْتِجَاجِ بِهِ في الجُمْلَةِ، لاسِيَّما إذَا كَانَ لَهُ مَا يُقَوِّيْهِ مِنْ أمَارَاتِ التَّقْوِيَةِ المَعْرُوفَةِ لَدَيْهِم.

قَالَ ابنُ الصَّلاحِ في كِتَابِهِ «مَعْرِفَةِ عُلُومِ الحَدِيْثِ» (1/111): «والصَّحِيْحُ هُوَ الأوَّلُ؛ لأنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَرْوِيَ عَنْ غَيْرِ عَدْلٍ، فَلَمْ يَتَضَمَّنْ رِوَايتُهُ عَنْهُ تَعْدِيْلَهُ، وهَكَذَا نَقُولُ: إنَّ عَمَلَ العَالِمِ أوْ فُتْيَاهُ على وَفْقِ حَدِيْثٍ، لَيْسَ حُكْمًا مِنْهُ بصِحَّةِ ذَلِكَ الحَدِيْثِ، وكَذَلِكَ مُخَالَفَتُهُ لِلْحَدِيثِ لَيْسَتْ قَدْحًا مِنْهُ في صِحَّتِهِ، ولا في رَاوِيهِ، واللهُ أعْلَمُ».
وقَدْ تَعَقَّبَهُ الحَافِظُ ابنُ كَثِيْرٍ في «اخْتِصَارِهِ» (97)، فَقَالَ: «وفي هَذَا نَظَرٌ، إذْ لم يَكُنْ في البَابِ غَيْرُ ذَلِكَ الحَدِيْثِ، أو تَعَرَّضَ للاحْتِجَاجِ بِهِ في فُتْيَاهُ أو حُكْمِهِ، أو اسْتَشْهَدَ بِهِ عِنْدَ العَمَلِ بمُقْتَضَاهُ».
ورَدَّهُ تَلْمِيْذُهُ الزَّرْكَشِيُّ في «نُكَتِهِ» ( 3/ 373)، فَقَالَ: «وفي هَذَا النَّظَرِ نَظَرٌ؛ لأنَّهُ لا يَلْزَمُ مِنْ كُوْنِ ذَلِكَ البَابِ لَيْسَ فِيْهِ غَيْرُ هَذَا الحَدِيْثِ أنْ لا يَكُوْنَ ثَمَّتَ دَلِيْلٌ آخَرُ مِنْ قِيَاسٍ أو إجْمَاعٍ، ولا يَلْزَمُ المُفْتِي أو الحَاكِمُ أنْ يَذْكُرَ جَمِيْعَ أدِلَّتِهِ، بَلْ ولا بَعْضِهَا، ولَعَلَّ لَهُ دَلِيْلًا آخَرَ، واسْتَأنَسَ بالحَدِيْثِ الوَارِدِ في البَابِ، ورُبَّمَا كَانَ المُفْتِي أو الحَاكِمُ يَرَى العَمَلَ بالحَدِيْثِ الضَّعِيْفِ وتَقدِيْمَهَ على القِيَاسِ، كَمَا تَقَدَّمَ حِكَايَةُ ذَلِكَ عَنْ أبي دَاوُدَ».
* * *
الاعْتِبَارُ العَاشرُ: أنْ يَكُوْنَ الحَدِيْثُ الضَّعِيْفُ مِمَّا تَلَقَّاهُ أهْلُ العِلْمِ بَيْنَهُم دُوْنَ نَكِيْرٍ، سَوَاءٌ كَانَ في بَابِ الفَضَائِلِ، أو الأحْكَامِ.
قَالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ في «الجَوَابِ الصَّحِيْحِ» (٢٤/٣): «مَا تَلَقَّاهُ المُسْلِمُونَ بالقَبُولِ والتَّصْدِيقِ والعَمَلِ مِنَ الأخْبَارِ: فَهُوَ مِمَّا يَجْزِمُ جُمْهُورُ المُسْلِمِينَ بِصِدْقِهِ عَنْ نَبِيِّهِم، هَذَا مَذْهَبُ السَّلَفِ وعَامَّةِ الطَّوَائِفِ، كَجُمْهُورِ الطَّوَائِفِ الأرْبَعَةِ وجُمْهُورِ أهْلِ الكَلَامِ مِنَ الكُلَابِيَّةِ والكَرَامِيَّةِ والأشْعَرِيَّةِ وغَيْرِهِم».
وقَدْ بَسَطَ الخَطِيْبُ البَغْدَادِيُّ الحَدِيْثَ عَنْ هَذَا في كِتَابِهِ «الفَقِيْهِ والمُتَفَقِّهِ»، ومِمَّا قَالَ رَحِمَهُ اللهُ (1/471) إجَابَةً على مَنْ ضَعَّفَ حَدِيْثَ مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في القِيَاسِ: «على أنَّ أهْلَ العِلْمِ قَدْ تَقَبَّلُوهُ واحْتَجُّوا بِهِ، فَوَقَفْنَا بِذَلِكَ على صِحَّتِهِ عِنْدَهُمْ، كَمَا وَقَفْنَا على صِحَّةِ قَوْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «لا وصِيَّةَ لِوَارِثٍ», وقَوْلِهِ في البَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الحِلُّ مَيْتَتُهُ», وقَوْلِهِ: «إذَا اخْتَلَفَ المُتَبَايِعَانِ في الثَّمَنِ، والسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ تَحَالَفَا وتَرَادَّا البَيْعَ», وقَوْلِهِ: «الدِّيَةُ على العَاقِلَةِ», وإنْ كَانَتْ هَذِهِ الأحَادِيْثُ لا تَثْبُتُ مِنْ جِهَةِ الإسْنَادِ, لَكِنْ لَمَّا تَلَقَّتْهَا الكَافَّةُ عَنِ الكَافَّةِ غَنَوْا بِصِحَّتِهَا عِنْدَهُمْ عَنْ طَلَبِ الإسْنَادِ لَهَا, فَكَذَلِكَ حَدِيثُ مُعَاذٍ ؛ لَمَّا احْتَجُّوا بِهِ جَمِيعًا غَنَوْا عَنْ طَلَبِ الإسْنَادِ لَهُ.
فَإنْ قَالَ: هَذَا مِنْ أخْبَارِ الآحَادِ لا يَصِحُّ الاحْتِجَاجُ بِهِ في هَذِهِ المَسْألَةِ، فَالجَوَابُ: أنَّ هَذَا أشْهُرُ وأثْبَتُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «لا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي على ضَلَالَةٍ», فَإذَا احْتَجَّ المُخَالِفُ بِذَلِكَ في صِحَّةِ الإجْمَاعِ, كَانَ هَذَا أوْلَى.
وجَوَابٌ آخَرُ, وهُوَ: أنَّ خَبَرَ الوَاحِدِ جَائِزٌ في هَذِهِ المَسْألَةِ؛ لأنَّهُ إذَا جَازَ تَثْبِيتُ الأحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِخَبَرِ الوَاحِدِ مِثْلُ: تَحْلِيلٍ, وتَحْرِيمٍ, وإيجَابٍ, وإسْقَاطٍ, وتَصْحِيحٍ, وإبْطَالٍ, وإقَامَةِ حَدٍّ بِضَرْبٍ, وقَطْعٍ, وقَتْلٍ, واسْتِبَاحَةِ فَرْجٍ, ومَا أشْبَهَ ذَلِكَ ـ كَانَ القِيَاسُ أوْلَى؛ لأنَّ القِيَاسَ طَرِيقٌ لِهَذِهِ الأحْكَامِ, وهِيَ المَقْصُودَةُ دُونَ الطَّرِيقِ، وهَذَا وَاضِحٌ لا إشْكَالَ فِيهِ».

وقَالَ أيْضًا في كِتَابِهِ «الكِفَايَةِ» (51): «وقَدْ يُسْتَدَلُّ أيْضًا على صِحَّتِهِ بِأنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْ أمَرٍ اقْتَضَاهُ نَصُّ القُرْآنِ أوِ السُّنَّةِ المُتَوَاتِرَةِ, أوِ اجْتَمَعَتِ الأُمَّةُ على تَصْدِيقِهِ, أوْ تَلَقَّتْهُ الكَافَّةُ بِالْقَبُولِ, وعَمِلَتْ بِمُوجَبِهِ لِأجْلِهِ...» انْتَهَى.
وبنَحْوِهِ
قَالَ ابنُ حَجَرٍ في «النُّكَتِ» (1/494): «مِنْ جُمْلَةِ صِفَاتِ القَبُولِ الَّتِي لم يَتَعَرَّضْ لَهَا شَيْخُنَا (يَعْنِي: العِرَاقيُّ) أنْ يَتَّفِقَ العُلَمَاءُ على العَمَلِ بمَدْلُولِ حَدِيْثٍ؛ فإنَّهُ يُقْبَلُ، ويَجِبُ العَمَلُ بِهِ.
قَالَ: وقَدْ صَرَّحَ بذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أئِمَّةِ الأُصُولِ».

وقَالَ ابنُ عَبْدِ البَرِّ في «الاسْتِذْكَارِ» (1/159) عَنْ حَدِيْثِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ»: «فَإنَّ فُقَهَاءَ الأمْصَارِ وجَمَاعَةً مِنْ أهْلِ الحَدِيثِ مُتَّفِقُونَ على أنَّ مَاءَ البَحْرِ طَهُورٌ، بَلْ هُوَ أصْلٌ عِنْدَهُم في طَهَارَةِ المِيَاهِ الغَالِبَةِ على النَّجَاسَاتِ المُسْتَهْلِكَةِ لَهَا، وهَذَا يَدُلُّكَ على أنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحُ المَعْنَى يُتَلَقَّى بِالقَبُولِ والعَمَلِ، الَّذِي  هُوَ أقْوَى مِنَ الإسْنَادِ المُنْفَرِدِ».وقَالَ أيْضًا في «التَّمْهِيْدِ» (16/217): «وهَذَا الحَدِيثُ لا يَحْتَجُّ أهْلُ الحَدِيثِ بِمِثْلِ إسْنَادِهِ، وهُوَ عِنْدِي صَحِيْحٌ؛ لأنَّ العُلَمَاءَ تَلَقَّوْهُ بِالقَبُولِ لَهُ، والعَمَلِ بِهِ».
وقَالَ أيْضًا (20/145): «وقَدْ رَوَى جَابِرُ بنُ عَبْدِ اللهِ بِإسْنَادٍ لا يَصِحُّ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «الدِّيْنَارُ أرْبَعَةٌ وعِشْرُونَ قِيرَاطًا»، وهَذَا الحَدِيثُ وإنْ لَمْ يَصِحَّ إسْنَادُهُ، فَفِي قَوْلِ جَمَاعَةِ العُلَمَاءِ بِهِ، وإجْمَاعِ النَّاسِ على مَعْنَاهُ مَا يُغْنِي عَنِ الإسْنَادِ فِيهِ».
وقَالَ الزَّرْكَشِيُّ في «نُكَتِهِ» (2/497): «إنَّ الحَدِيْثَ الضَّعِيْفَ إذَا تَلَقَّتْهُ الأُمَّةُ بالقَبُولِ عُمِلَ بِهِ على الصَّحِيْحِ؛ حَتَّى إنَّهُ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ المُتَواتِرِ في أنَّهُ يَنْسَخُ المَقْطُوعَ».
وكَذَا نَجِدُ الحَنَفِيَّةَ يَعُدُّونَ الضَّعِيْفَ إذَا تَلَقَّاهُ العُلماءُ بالقَبُولِ في حَيِّزِ المُتَواتِرِ،
كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الجَصَّاصُ في «أحْكَامِ القُرآنِ» (1/386)؛ حَيْثُ قَالَ عِنْدَ الكَلامِ على حَدِيْثِ: «طَلاقِ الأمَةِ تَطْلِيْقَتَانِ، وعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ»: «وقَدْ تَقَدَّمَ سَنَدُهُ، وقَدِ اسْتَعْمَلَتِ الأُمَّةُ هَذَيْنِ الحَدِيْثَيْنِ في نُقْصَانِ العِدَّةِ، وإنْ كَانَ وُرُودُهُ مِنْ طَرِيْقِ الآحَادِ؛ فَصَارَ في حَيِّزِ المُتَواتِرِ؛ لأنَّ مَا تَلَقَّاهُ النَّاسُ بالقَبُولِ مِنْ أخْبَارِ الآحَادِ، فَهُوَ عِنْدَنَا في مَعْنَى المُتَواتِرِ؛ لِمَا بَيَّنَّاهُ في مَوَاقِعَ».
وهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللهُ، بَلْ هُوَ أوَّلُ مَنْ أشَارَ إلى تَقْوِيَةِ الضَّعِيْفِ بتَلَقِّي العُلَماءِ لَهُ،
إذْ قَالَ في  «الرِّسَالَةِ» (142): «فاسْتَدْلَلْنَا بِمَا وَصَفْتُ مِنْ نَقْلِ عَامَّةِ أهْلِ المَغَازِي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنَّ «لا وَصِيَّةَ لوَارِثٍ»، على أنَّ المَوَارِيْثَ نَاسِخَةٌ للوَصِيَّةِ للوَالِدَيْنِ والزَّوْجَةِ مَعَ الخَبَرِ المَنْقَطِعِ، وإجْمَاعِ العَامَّةِ على القَوْلِ بِهِ».
قلت: وإلى هَذَا كَثِيْرًا ما يَذْهَبُ الإمَامُ التِّرمِذيُّ رَحِمَهُ اللهُ في «جَامِعِهِ»، إذْا يَقُولُ عَنِ الأحَادِيْثِ الضَّعِيْفَةِ: «وعَلَيْهِ العَمَلُ عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ»، مَا يَدُلُّ على أنَّهُ يَذْهَبُ إلى تَقْوِيَةِ الحَدِيْثِ بمُقْتَضَى عَمَلِ أهْلِ العِلْمِ، كَمَا يَدُلُّ على اشْتِهَارِ أصْلِهِ عِنْدَهُم.
وقَالَ ابنُ الوَزِيْرَ في «العَواصِمِ والقَواصِمِ» (2/397): «وقَدِ احْتَجَّ العُلَماءُ على صِحَّةِ أحَادِيْثَ بتَلَقِّي الأُمَّةِ لَهَا بالقَبُولِ».
ويَدُلُّ على هَذَا الاعْتَبَارِ كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ إلى أبِي مُوسَى الأشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وفِيْهِ: «أمَّا بَعْدُ، فَإنَّ القَضَاءَ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ، وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، فَافْهَمْ إذَا أُدْلَى إلَيْك؛ فَإنَّهُ لا يَنْفَعُ تَكَلُّمٌ بِحَقٍّ لَا نَفَاذَ لَهُ، آسِ النَّاسَ في مَجْلِسِكَ وفي وَجْهِكَ وقَضَائِكَ؛ حَتَّى لا يَطْمَعَ شَرِيفٌ في حَيْفِكَ، ولا يَيْأسَ ضَعِيفٌ مِنْ عَدْلِكَ، البَيِّنَةُ على المُدَّعِي، واليَمِينُ على مَنْ أنْكَرَ، والصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ المُسْلِمِينَ، إلَّا صُلْحًا أحَلَّ حَرَامًا، أوْ حَرَّمَ حَلَالًا، ومَنْ ادَّعَى حَقًّا غَائِبًا أوْ بَيِّنَةً فَاضْرِبْ لَهُ أمَدًا يَنْتَهِي إلَيْهِ، فَإنْ بَيَّنَهُ أعْطَيْتَهُ بِحَقِّهِ، وَإنْ أعْجَزَهُ ذَلِكَ اسْتَحْلَلْتَ عَلَيْهِ القَضِيَّةَ، فَإنَّ ذَلِكَ هُوَ أبْلَغُ في العُذْرِ وأجْلَى لِلْعَمَاءِ.
ولا يَمْنَعَنَّكَ قَضَاءٌ قَضَيْتَ فِيهِ اليَوْمَ فَرَاجَعْتَ فِيهِ رَأيَكَ فَهُدِيتَ فِيهِ لِرُشْدِكَ أنْ تُرَاجِعَ فِيهِ الحَقَّ، فَإنَّ الحَقَّ قَدِيمٌ لا يُبْطِلُهُ شَيْءٌ، وَمُرَاجَعَةُ الحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِي في البَاطِلِ.
والمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُم على بَعْضٍ، إلَّا مُجَرَّبًا عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ، أوْ مَجْلُودًا في حَدٍّ، أوْ ظَنِينًا في وَلَاءٍ أوْ قَرَابَةٍ؛ فَإنَّ اللهَ تَعَالَى تَوَلَّى مِنَ العِبَادِ السَّرَائِرَ، وَسَتَرَ عَلَيْهِم الحُدُودَ إلَّا بِالبَيِّنَاتِ والأيْمَانِ، ثُمَّ الفَهْمَ الفَهْمَ فِيمَا أدْلَى إلَيْكَ مِمَّا وَرَدَ عَلَيْكَ مِمَّا لَيْسَ في قُرْآنٍ ولا سُنَّةٍ، ثُمَّ قَايِسِ الأُمُورَ عِنْدَ ذَلِكَ، واعْرِفِ الأمْثَالَ، ثُمَّ اعْمِدْ فِيمَا تَرَى إلى أحَبِّهَا إلى اللهِ، وأشْبَهِهَا بِالحَقِّ ... إلى آخِرِهِ»، ثُمَّ قَالَ أبُو عُبَيْدٍ: «فَقُلْت لِكَثِيرٍ: هَلْ أسْنَدَهُ جَعْفَرٌ؟ قَالَ: لَا» انْتَهَى.

قَالَ عَنْهُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ في «إعْلامِ المُوقِّعِيْنَ» (1/68): «وهَذَا كِتَابٌ جَلِيلٌ تَلَقَّاهُ العُلَمَاءُ بِالْقَبُولِ، وبَنَوْا عَلَيْهِ أُصُولَ الحُكْمِ والشَّهَادَةِ، والحَاكِمُ والمُفْتِي أحْوَجُ شَيْءٍ إلَيْهِ وإلى تَأمُّلِهِ، والتَّفَقُّهِ فِيهِ».
قُلْتُ: إنَّ تَلَقِّي الحَدِيْثَ الضَّعِيْفَ بالقَبُولِ لَيْسَ دَلِيْلًا قَاطِعًا على صِحَّتِهِ، ولَيْسَ هُوَ مِنْ طُرُقِ تَصْحِيْحِ الأحَادِيْثِ عِنْدَ أهْلِ الشَّأنِ، بَلْ هُوَ قَرِيْنَةٌ يَتَقَوَّى بِهَا الحَدِيْثُ مِنْ بَابِ الاعْتِبَارِ.
ومَهْمَا يَكُنْ، فَلا يَخْلُ تَلَقِّي الحَدِيْثَ الضَّعِيْفَ بالقَبُولِ مِنْ صِحَّةِ مَعْنَاهُ؛ حَتَّى لَوْ كَانَ ضَعِيْفَ السَّنَدِ، واللهُ تَعَالى أعْلَمُ.
* * *
الاعْتِبَارُ الحَادِي عَشَرَ: عَدَمُ الاقْتِصَارِ على ذِكْرِ مَنْ ضَعَّفَ الحَدِيْثَ المُخْتَلَفَ فِيْهِ دُوْنَ ذِكْرِ مَنْ صَحَّحَهُ.
لِذَا؛ فَإنَّهُ يَجِبُ على مَنْ ظَهَرَ لَهُ ضَعْفُ بَعْضِ الأحَادِيْثِ المُخْتَلَفِ فِيْهَا بَيْنَ أئِمَّةِ الحَدِيْثِ صِحَّةً وضَعْفًا: ألَّا يَقْتَصِرَ على ذِكْرِ مَنْ ضَعَّفَهُ، بَلْ لا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ مَنْ صَحَّحَهُ مِنْ أهْلِ العِلْمِ، أو احْتَجَّ بِهِ مِنْهُم، أو يُشِيْرَ إلى أنَّهُ حَدِيْثٌ لَيْسَ مَقْطُوعًا بضَعْفِهِ عِنْدَ عَامَّةِ أهْلِ العِلْمِ، بَلْ جَرَى فِيْهِ خِلافٌ بَيْنَهُم.

في حِيْنِ أنَّهُ يَجُوْزُ لطَالِبِ العِلْمِ: الاقْتِصَارُ على تَضْعِيْفِ الحَدِيْثِ المُتَنَازِعِ في ضَعْفِهِ، عِنْدَ المُقَلِّدِيْنَ لَهُ، أو عِنْدَ الفَتْوَى بِهِ، ونَحْوِ ذَلِكَ.
أمَّا عِنْدَ التَّحْقِيْقِ والتَّنْظِيْرِ والدَّرْسِ والشَّرْحِ ونَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَجَالِسِ العِلْمِ: فعَلَيْهِ أنْ يَذْكُرَ خِلاف أئِمَّةِ الحَدِيْثِ وتَنَازُعَهُم في ضَعْفِ الحَدِيْثِ، واللهُ تَعَالى أعْلَمُ.
لأنَّ الاقْتِصَارَ على تَضْعِيْفِ الحَدِيْثِ في مَجَالِسِ العِلْمِ دُوْنَ ذِكْرٍ للخِلافِ في حُكْمِ تَضْعِيْفِهِ: فِيْهِ شَيءٌ مِنَ الغِشِّ والكِتْمَانِ، مِمَّا لا يَجُوْزُ كِتْمَانُهُ؛ لحَدِيْثِ النَّبِيِّ ﷺ: «
مَا مِنْ رَجُلٍ يَحْفَظُ عِلْمًا فَيَكْتُمُهُ إلَّا أُتِيَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ مُلْجَمًا بِلِجَامٍ مِنَ النَّارِ» أخْرَجَهُ ابنُ مَاجَه.
والحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ

فضيلة
الشيخ الدكتور
ذياب بن سعد الغامدي
ظاهرة تضعيف الأحاديث ص 177
 
اسمك :  
نص التعليق : 
      
 
 
 

 
 
 اشتراك
 انسحاب
اشتراك
انسحاب
 المتواجدون حاليا: ( 1 )
 الزيارات الفريدة: ( 2648977)