موقف ابن تيمية من مسألة شد الرحال للقبور
عدد مرات القراءة: 92032
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين.
وبعد: فلا شك أن مسألة «شد الرحال إلى القبور» من المسائل التي توسع فيها أهل البدع، لا سيما القبوريون منهم؛ حيث وقعوا - من خلال التساهل فيها - في محاذير شرعية: ما بين شرك بالله وبدع مقيتة، كما سيأتي.
ومع ضلالهم في هذه المسألة نجد أن الشيطان أيضا قد أظهر لهم: أن الخلاف فيها دائر بينهم وبين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقط، بل زين لهم الشيطان سوء أعمالهم: بأن ابن تيمية خالف الإجماع في مسألة «شد الرحال إلى القبور»، وأنه ناصبي لكونه يمنع من زيارة قبر النبي ﷺ!
لأجل هذا؛ فقد أردت أن أذكر أقوال أهل العلم الذين سبقوا شيخ الإسلام ابن تيمية على منع
«شد الرحال إلى القبور»؛ لا سيما قبر النبي ﷺ، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
لأجل هذا فقد أدرت أحكام مسألة «شد الرحال إلى القبور» على مقدمات علمية، كي يدرك طالب العلم مواقع الاتفاق والخلاف في هذه المسألة، فمن ذلك:

المقدمة الأولى: يجب على طالب العلم ألا ينظر إلى الخلاف في مسألة «شد الرحال إلى القبور» على أنها مسألة خلافية دائرة بين أهل السنة الذين يُقَدِّرون القبور قَدَرًا شرعيا، وبين أهل البدع الذين يعظمون القبور تعظيما شركيا، وقد قيل: «الحكم على الشيء فرع عن تصوره»، ويدل على هذا الآتي:
المقدمة الثانية: أن مقصد أهل السنة عند زيارتهم للقبور: هو الزيارة الشرعية التي تقف عند الدعاء للموتى والسلام عليهم، وعند التذكير بالآخرة، ونحو ذلك مما هو معلوم شرعا.
أما مقصد أهل الأهواء والبدع عند زيارتهم للقبور: فهو الزيارة البدعية أو الشركية، كما هو شاهد الحال عند زياراتهم للقبور مما هو معلوم للجميع.
فهم بزياراتهم للقبور لا يخرجون عن أمرين:

الأول: إما أنهم يقصدون عندها الزيارة البدعية: كالتمسح بها لطلب البركة، أو دعاء الله والصلاة له تعالى عندها؛ ظنا منهم أن الدعاء والصلاة عندها أعظم أجرا وأرجى استجابة، وغير ذلك من البدع المضلة، وكل هذه الأمور من الشرك الأصغر والبدع المضلة.
الثاني: وإما أنهم يقصدون عندها الزيارة الشركية: كدعاء أصحاب القبور لطلب الشفاء وجلب الرزق، وكذا السجود والنذر لهم، ونحو ذلك من الأمور الشركية التي تخرج صاحبها من الإسلام؛ عياذا بالله!
المقدمة الثالثة: يجب أيضا على طالب العلم أن يدرك أن الخلاف الدائر بين أهل السنة وأهل البدع في هذه المسألة: لم تكن حقيقته زيارة قبر النبي ﷺ فقط؛ بل أهل البدع يقصدون من هذه المسألة: زيارة المشاهد والقباب والقبور المشيدة؛ سواء كانت هذه القبور لمن يظن بأصحابها الولاية والصلاح أو كانت لبعض أهل الضلال والنفاق، يوضحه الآتي!
المقدمة الرابعة: أن قبر النبي ﷺ قد حفظه الله تعالى من عبث المشركين وخرافات القبوريين، فلم يكن يوما مسجدا ولا عيدا ولا مزارا ولا وثنا يعبد من دون الله تعالى، وكان هذا بفضل دعاء النبي ﷺ لربه؛ حيث قال ﷺ: «اللهم لا تجعل قبري وثنا، لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» أخرجه أحمد (7358)، وقال ﷺ: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» أخرجه مالك (416)، عن عطاء بن يسار مرسلا، وابن سعد في «الطبقات الكبرى» (2/240)، وابن أبي شيبة (7544)، وعبد الرزاق (1587).
وقد حذّر النبي ﷺ أمته من أن يتخذوا قبره عيدا ومزارا؛ حيث قال ﷺ:
«لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم؛ فإن صلاتكم تبلغني» أخرجه أحمد (8804)، وأبو داود (2042).
وقد قال ﷺ أيضا في مرضه:
«لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»؛ يحذر ما صنعوا. قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره؛ ولكن كره أن يتخذ مسجدا. أخرجه البخاري، واللفظ له (1330)، (425)، ومسلم (19) (529)، (531)، وغير ذلك من الأحاديث المشتهرة.
فإذا علم أن الله تعالى قد حفظ قبر النبي ﷺ من أن يتخذ مسجدا أو عيدا أو قبرا أو وثنا يعبد من دون الله تعالى: كان علينا والحالة هذه:
أن نعلم جميعا أن خلاف أهل السنة مع أهل البدع في «شد الرحال إلى القبور» لم يكن دائرا حول قبر النبي ﷺ؛ لكونه محفوظا مصونا بفضل الله وكرمه، بل كان مقصد أهل البدع هو شدهم الرحال إلى القبور التي يقصدون عندها الشرك والبدع، عياذا بالله.
المقدمة الخامسة: إقحام أهل البدع مسألة «السفر إلى قبر النبي ﷺ» كان بدافع إثارة الشبه والجدال لا بحثا عن الحق المنشود؛ لذا لم يكن السفر عندهم إلى قبر النبي ﷺ مقصدا لذاته، بل كان وسيلة ومطية لهم كي يتوصلون من خلاله إلى السفر إلى زيارة ما سواه من القبور؛ لا سيما القبور والمشاهد التي أصبحت عندهم موطنا للشركيات والبدع ما يعلمه الجميع!
المقدمة السادسة: أن الخلاف في هذه المسألة لم يظهر على الساحة العلمية منذ فجر الإسلام حتى ظهرت الدولة العبيدية الرافضية والقرامطة ونحوهم من الفرق الباطنية، فعندها ظهرت الزيارات الشركية، وفضلت القبور والمشاهد على الجوامع والمساجد، وقدمت زيارة القبور على الحج والعمرة، وهكذا ظهر الفساد في البر والبحر؛ حتى جاء القرن السابع وفيه نجم النفاق وظهرت الشركيات وقامت سوق أهل الأهواء والبدع من الرافضة والصوفية والقبوريين وغيرهم من الباطنية والزنادقة.
ومع هذا؛ فقد قيض الله تعالى في هذا القرن مجددا للدين أظهر الله على يديه السنة وقمع به البدعة: إنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ حيث نشر السنة ورفع أعلامها، وأبطل البدعة ونكس راياتها، فعندها رد على أهل الأهواء والبدع شبههم وكشف زيغهم وضلالهم ما يعلمه القاصي والداني،
﴿والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾ [يوسف:21].
فعندئذ اجتمعت كلمة أهل البدع والأهواء على معاداة ابن تيمية رحمه الله والطعن عليه بكل ما يستطيعون، فعندها اتهموه بكل تهمة وفرية، فكان من تلكم الاتهامات: اتهامهم له رحمه الله بأنه ناصبي؛ لكونه قد خالفهم في مسألة شد الرحال إلى قبر النبي ﷺ، بل ادعوا - كذبا وزرا -: أنه قد خالف فيها إجماع العلماء، إلى غير ذلك من القالات المقيتة!
كما أنهم مع هذه الدعاوى الباطلة: قد خلطوا بين زيارة القبور وبين شد الرحال إليها، وخلطوا أيضا بين قول النواصب في آل البيت وبين من يمنع السفر إلى قبر النبي ﷺ، كما سيأتي بيانه.

المقدمة السابعة: بيان أن موقف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من مسألة «شد الرحال إلى القبور»: هو موقف شرعي موافق لما عليه أئمة السلف قديما وحديثا، ويدل على ذلك ثلاثة أمور:
الأمر الأول: لا بد من التفريق بين مسألة «شد الرحال إلى القبور»، وبين مسألة «زيارة القبور».
وعليه؛ فإنه لا يدخل في محل النزاع: مسألة استحباب زيارة القبور؛ لا سيما زيارة قبر النبي ﷺ الذي هو أشرف القبور وأعظمها حرمة.
وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية على استحباب زيارة القبور في غير موضع من كتبه وفتاواه، وكان هذا منه رحمه الله استنادا لقول النبي ﷺ:
«إني كنت نهيتكم عن زيارة نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها؛ فإنها تذكركم الآخرة» أخرجه مسلم (1977)، وأحمد (1236)، والترمذي (1054)، واللفظ لهما، من حديث بريدة بن الحصيب t، وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح... والعمل على هذا عند أهل العلم، لا يرون بزيارة القبور بأسا، وهو قول ابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق».
كما صرح ابن تيمية أيضا: باستحباب زيارة القبور في «الرد على الإخنائي» (54) بقوله: «والمجيب [يعني: نفسه] قد عرفت كتبه، وفتاويه مشحونة باستحباب زيارة القبور، وفي جميع مناسكه، يذكر استحباب زيارة قبور أهل البقيع وشهداء أحد، ويذكر زيارة قبر النبي ﷺ إذا دخل مسجده، والأدب في ذلك، وما قاله العلماء، وفي نفس الجواب قد ذكر ذلك، ولم يذكر قط أن زيارة القبور معصية، ولا حكاه عن أحد، بل كان يعتقد حين كتب هذا الجواب أن زيارة القبور مستحبة بالإجماع، ثم رأى بعد ذلك فيها نزاعا، وهو نزاع مرجوح، والصحيح أنها مستحبة».
وقد ذكر ذلك الحافظ ابن عبد الهادي في «الصارم المنكي» (18): «السفر إلى زيارة القبور مسألة، وزيارتها من غير سفر مسألة أخرى، ومن خلط هذه المسألة بهذه المسألة، وجعلها مسألة واحدة، وحكم عليهما بحكم واحد، وأخذ في التشنيع على من فرق بينهما، وبالغ في التنفير عنه- فقد حرم التوفيق، وحاد عن سواء الطريق».
وما ذكره الحافظ ابن عبد الهادي من التخليط بين المسألتين: هو حال كثير ممن اعترض على ابن تيمية، وأكثر من التشنيع عليه، ورماه باللوازم الباطلة من بغضه للنبي ﷺ وعدم تعظيمه، ومن تأمل كلام الإخنائي المعترض وغيره على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وجده من هذا القبيل، بل كان أكثره كذبا وافتراءا عليه، وقد قال الله تعالى:
﴿والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا﴾ [الأحزاب: 58].
وأيضا؛ فقد ذكر الحافظ ابن كثير في «البداية والنهاية» (14/143): بعض التحريفات والافتراءات التي قالها المناوئون لشيخ الإسلام ابن تيمية، وما ذكروه من تهم باطلة وكاذبة، ثم أعقب ذلك بقوله: «فانظر الآن هذا التحريف على شيخ الإسلام، فإن جوابه على هذه المسألة ليس فيه منع زيارة قبور الأنبياء والصالحين، وإنما فيه ذكر قولين في شد الرحل والسفر إلى مجرد زيارة القبور. وزيارة القبور من غير شد رحل إليها مسألة، وشد الرحل لمجرد الزيارة مسألة أخرى. والشيخ لم يمنع الزيارة الخالية عن شد رحل، بل يستحبها ويندب إليها، وكتبه ومناسكه تشهد بذلك، ولم يتعرض إلى هذه الزيارة في هذه الوجه في الفتيا، ولا قال إنها معصية، ولا حكى الإجماع على المنع منها، ولا هو جاهل قول الرسول: «زوروا القبور؛ فإنها تذكركم الآخرة» [أخرجه مسلم (976)، وابن ماجه (1569)، واللفظ له]، والله سبحانه لا يخفى عليه شيء، ولا يخفى عليه خافية، {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} [الشعراء: 227]» انتهى.
الأمر الثاني: بيان حكم السفر لمجرد زيارة القبور فقط، وهذه المسألة فيها قولان للعلماء:
أحدهما: إنه منهي عنه، وهذا ما نص عليه إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس رحمه الله، ولم ينقل عن أحد من الأئمة الثلاثة خلافه، ونص عليه أيضا بعض الأئمة من أهل العلم كما سيأتي، وإليه ذهب جماعة من أصحاب الشافعي وأحمد.
والثاني: القول بإباحة ذلك، كما يقوله بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد.
هذا ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، مع ترجيحه للقول الأول: بأن إنشاء السفر لزيارة القبور معصية، محتجا بجملة من الأدلة الشرعية، منها:
ما رواه أبو هريرة t - يبلغ به النبي ﷺ -:
«لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى» أخرجه البخاري (1189)، ومسلم (511) (1397)، واللفظ له، هكذا بلفظ الخبر، والمراد به: النهي، يقول الطبري: «النفي أبلغ من صريح النهي، كأنه قال: لا يستقيم أن يقصد بالزيارة إلا هذه البقاع؛ لاختصاصها بما اختصت به». انظر: «عمدة القاري» للعيني (7/252).
وقد جاء النهي صريحا فيما رواه أبو سعيد الخدري t عنه مرفوعا بلفظ:
«لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى» أخرجه مسلم (827).
كما جاء بصيغة الحصر، كما في رواية أبي هريرة t أن رسول الله ﷺ قال:
«إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد: مسجد الكعبة، ومسجدي، ومسجد إيلياء» أخرجه مسلم (513) (1397).
الأمر الثالث: حكم من جمع في سفره بين قصد المسجد النبوي، وقصد زيارة قبره ﷺ، وهذه المسألة قد ذكرها ابن تيمية بما فيه كفاية، حيث قال في «الرد على الإخنائي» (312): إن الناس في زيارتهم لقبره ﷺ على أقسام:
منهم: من يقصد السفر الشرعي إلى مسجده ﷺ، ثم إذا صار في مسجده فعل في مسجده المجاور لبيته الذي فيه قبره ما هو مشروع، فهذا سفر مجمع على استحبابه، وقصر الصلاة فيه.
ومنهم: من لا يقصد إلا مجرد القبر، ولا يقصد الصلاة في المسجد أو لا يصلي فيه، فهذا لا ريب أنه ليس بمشروع.
ومنهم: من يقصد هذا وهذا، فهذا لم يذكر في الجواب [يعني: في جوابه عن السؤال الذي وجه إليه]، إنما ذكر في الجواب من لم يسافر إلا لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين.
ومن الناس: من لا يقصد إلا القبر؛ لكن إذا أتى المسجد صلى فيه، فهذا أيضا يثاب على ما فعله من المشروع: كالصلاة في المسجد، والصلاة على النبي ﷺ والسلام عليه، ونحو ذلك من الدعاء والثناء عليه، ومحبته وموالاته، والشهادة له بالرسالة والبلاغ، وسؤال الله الوسيلة له، ونحو ذلك مما هو من حقوقه المشروعة في مسجده، بأبي هو وأمي ﷺ. وانظر: «الصارم المنكي» لابن عبد الهادي (18).
المقدمة الثامنة: ذكر الآثار الشرعية على منع «شد الرحال إلى القبور»؛ لا سيما إلى قبر النبي ﷺ، فمن ذلك:
الأثر الأول: عن بصرة بن أبي بصرة وأبي هريرة رضي الله عنهما:
قال أبو هريرة t: فلقيت بصرة بن أبي بصرة الغفاري t، فقال: من أين أقبلت؟ فقلت: من الطور، فقال: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت، سمعت رسول الله ﷺ يقول:
«لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد: إلى المسجد الحرام، وإلى مسجدي هذا، وإلى مسجد إيلياء - أو بيت المقدس -...» أخرجه مالك (1/108)، وأحمد (23848)، والنسائي في «المجتبى» (3/113)، والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (2/55)، وقال العيني في «عمدة القاري» (7/252): «ورجال إسناده ثقات»، وصححه الألباني في «إرواء الغليل» (3/228).
فدل هذا الأثر على أن الصحابي الجليل بصرة بن أبي بصرة t كان يرى أن إنشاء السفر لزيارة جبل الطور داخل تحت الحديث:
«لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد...»، ومعلوم أن الطور ليس مسجدا، وإنما هو بقعة مباركة، وقد سماه الله تعالى بالوادي المقدس، وكلم الله موسى هناك، فقال تعالى: {إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى} [النازعات: 16]، ومع ذلك فقد فهم الصحابة من الأحاديث عموم النهي عن إعمال المطي والسفر لزيارة الأماكن المقدسة وغيرها من المساجد وغيرها، ولا شك أنهم أعلم من غيرهم فيما سمعوه من النبي ﷺ.
ولما سمع أبو هريرة t هذا الكلام من بصرة، لم ينكره ولم يعترض عليه، مما يدل على موافقته له فيما قاله ونبهه عليه.

وقد ألمح الحافظ ابن حجر إلى تلك المعاني مختصرة بقوله في «فتح الباري» (3/65): «فدل على أنه [يعني: بصرة بن أبي بصرة] يرى حمل الحديث على عمومه، ووافقه أبو هريرة».
الأثر الثاني: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
عن قزعة، قال: أردت الخروج إلى الطور، فسألت ابن عمر رضي الله عنهما، فقال ابن عمر: أما علمت أن النبي ﷺ قال:
«لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد النبي ﷺ, والمسجد الأقصى»، ودع عنك الطور، فلا تأته. أخرجه ابن أبي شيبة (3/418)، والأزرقي في «أخبار مكة» (2/65)، وصححه الألباني في «تحذير الساجد» (94).
وفي هذا الأثر التصريح بالمنع من السفر والخروج لزيارة جبل الطور، مع ما ورد من ذكره في القرآن وتسميته بالواد المقدس، فأين هذا مما لم يرد في فضله أثر صحيح؛ كالقبور ومشاهد الصالحين؟!

الأثر الثالث: عن أبي سعيد الخدري t:
عن شهر بن حوشب قال: سمعت أبا سعيد الخدري t، وذكرت عنده صلاة في الطور، فقال: قال رسول الله ﷺ:
«لا ينبغي للمطي أن تشد رحاله إلى مسجد يبتغى فيه الصلاة، غير المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا» أخرجه أحمد (11609)، وأبو يعلى في «المسند» (1326)، وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/3): «هو في الصحيح بنحوه، وإنما أخرجته لغرابة لفظه، رواه أحمد، وشهر فيه كلام، وحديثه حسن»، وقال الألباني في «إرواء الغليل» (3/230): «وهذا سند لا بأس به في المتابعات والشواهد».
وأبو سعيد الخدري t هو راوي حديث:
«لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول ﷺ، ومسجد الأقصى» أخرجه البخاري (1188)، ومسلم (415) (827).
وجه الدلالة من هذا الأثر: أنه عن نفس الصحابي الذي روى حديث النهي عن شد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، وهو الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري t، ولا شك أن فهم الصحابي -الذي روى الحديث- يقدم على فهم غيره، وخاصة إذا كان من غير الصحابة؛ وهذا ما دفع شيخ الإسلام ابن تيمية إلى تأكيد فهمه للحديث بما أورده من تلك الآثار، بل نجده يصرح بذلك في «الرد على الإخنائي» (188؟) بقوله: «وهذا النهي من بصرة وابن عمر، ثم موافقة أبي هريرة- يدل على أنهم فهموا من حديث النبي ﷺ النهي، فلذلك نهوا عنه، لم يحملوه على مجرد نفي الفضيلة، وكذلك أبو سعيد الخدري، وهو راوية أيضا، وحديثه في الصحيحين».
المقدمة التاسعة: ذكر أقوال العلماء الذين سبقوا شيخ الإسلام ابن تيمية في منع «شد الرحال إلى القبور»، وهم ثلاثة أقسام:

القسم الأول: من سبق ابن تيمية في منع «شد الرحال إلى القبور»، منهم:
1ـ الإمام مالك بن أنس رحمه الله: فقد جاء في «المدونة الكبرى» (1/565): «قال ابن القاسم: قال مالك -فيمن قال: علي المشي إلى مسجد بيت المقدس-: فعليه أن يأتي مسجد بيت المقدس راكبا، فليصل فيه.
قال ابن القاسم: ومن قال: علي المشي إلى بيت المقدس، أو إلى المدينة، فلا يأتهما أصلا إلا أن يكون أراد الصلاة في مسجديهما، فيأتيهما راكبا»، وفي «التفريع» لابن الجلاب، و«الرسالة» للقيرواني مثله. انظر: «التفريع في فقه مالك بن أنس» (1/280)، و«الرسالة» للقيرواني (88).

وقال ابن القاسم أيضا في «المدونة الكبرى» (1/565): «وقال مالك: من قال: لله علي أن آتي المدينة، أو بيت المقدس، أو المشي إلى المدينة، أو المشي إلى بيت المقدس، فلا شيء عليه إلا أن يكون نوى بقوله ذلك: أن يصلي في مسجد المدينة أو مسجد بيت المقدس، فإن كانت تلك نيته وجب عليه الذهاب إلى المدينة، أو إلى بيت المقدس راكبا، ولا يجب عليه أن يمشي وإن كان حلف بالمشي، ولا دم عليه».
ويفهم من هذه النصوص: أن نذر الإتيان إلى المدينة أو المشي إليها بمجرده لا يكون طاعة ولا قربة؛ فإن قاعدة المذهب المالكي: أن النذر لا يؤثر إلا في مندوب،
قال القرافي في «الذخيرة» (4/85): «قاعدة: النذر عندنا لا يؤثر إلا في مندوب، فما لا رجحان في فعله في نظر الشرع، لا يؤثر فيه».
وبناء عليه: فكل ما ليس مندوبا - بمعنى قد استحبه الشارع ورغب فيه - لا يوفى بنذره، وهذا عام في كل ما تعمل المطي لأجله، أما بخصوص مسألة شد الرحال والسفر لزيارة القبور، فقد جاء هذا المعنى مصرحا به عن بعض أكابر المالكية، وهو القاضي إسماعيل بن إسحاق، ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية أن يكون هذا القاضي الجليل قد فهم ذلك عن الإمام مالك، وهو ما سيتبين في الفقرة التالية.
القاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي: فقد احتج القاضي إسماعيل المالكي رحمه الله على المنع من السفر لزيارة القبر، بقوله ﷺ: «لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد»، مما يدل على ثبوت ذلك عنده عن الإمام مالك، ولهذا يقول في كتابه «المبسوط» -لما ذكر قول محمد بن مسلمة: من نذر أن يأتي مسجد قباء فعليه أن يأتيه- قال القاضي إسماعيل: إنما هذا فيمن كان من أهل المدينة وقربها ممن لا يعمل المطي إلى مسجد قباء؛ لأن إعمال المطي اسم للسفر، ولا يسافر إلا إلى المساجد الثلاثة على ما جاء عن النبي ﷺ، في نذر ولا غيره، وقد روي عن مالك أنه سئل عمن نذر أن يأتي قبر رسول الله ﷺ، فقال: إن كان أراد مسجد رسول الله ﷺ فليأته وليصل فيه، وإن كان إنما أراد القبر فلا يفعل للحديث الذي جاء: «لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد». انظر: «الرد على الإخنائي» لابن تيمية (44) بتصرف يسير.
3ـ القاضي عياض: قال القاضي عياض في «إكمال المعلم» (4/448): «وقوله: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» الحديث- فيه تعظيم هذه المساجد، وخصوصها بشد الرحال إليها؛ ولأنها مساجد الأنبياء، ولفضل الصلاة فيها، وتضعيف أجرها، ولزوم ذلك لمن نذره، بخلاف غيرها مما لا يلزم ولا يباح بشد الرحال إليها لا لناذر ولا لمتطوع لهذا النهي، إلا ما ألحقه محمد بن مسلمة من مسجد قباء، وإلزامه إتيانه لمن نذره؛ لما روي أن النبي ﷺ كان يأتي قباء راكبا وماشيا...».
وصريح كلامه: أنه لا يلزم ولا يباح السفر وشد الرحال لغير المساجد الثلاث، وهذا الأمر يستوي فيه كل أحد، سواء كان ناذرا أو متطوعا، وقد أكد نسبة هذا الأمر إلى القاضي عياض غير واحد من العلماء، منهم: النووي في «شرح مسلم» (9/106)، والحافظ ابن حجر في «فتح الباري» (3/65)، والعيني في «عمدة القاري» (7/254).

4ـ الفقيه أبو محمد الجويني رحمه الله، حيث قال في «نهاية المطلب» (18/430): «وكان شيخي [يعني: والده أبا محمد الجويني] يفتي بالمنع عن شد الرحال إلى غير هذه المساجد، وربما كان يقول: يكره، وربما كان يقول: يحرم؛ تعلقا بظاهر النهي». انظر: «العزيز شرح الوجيز» للرافعي (12/392)، و«المجموع» للنووي (8/475)، و«روضة الطالبين» للنووي (3/326)، و«كفاية النبيه» لابن الرفعة (8/321).
قال النووي في «شرح مسلم» (9/106): «واختلف العلماء في شد الرحال وإعمال المطي إلى غير المساجد الثلاثة: كالذهاب إلى قبور الصالحين، وإلى المواضع الفاضلة، ونحو ذلك، فقال الشيخ أبو محمد الجويني - من أصحابنا -: هو حرام، وهو الذي أشار القاضي عياض إلى اختياره».

5ـ القاضي حسين: وقد ذكره الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» (3/65) - عند شرحه لحديث: «لا تشد الرحال» -: «قال الشيخ أبو محمد الجويني: يحرم شد الرحال إلى غيرها عملا بظاهر هذا الحديث، وأشار القاضي حسين إلى اختياره، وبه قال عياض وطائفة».
6ـ الشيخ المحدث أبو السعادات ابن الأثير: حيث قال في «جامع الأصول» (9/283) - في شرح حديث «لا تشد الرحال» -: «هذا مثل قوله: «لا تعمل المطي»، وكنى به عن السير والنفر، والمراد: لا يقصد موضع من المواضع بنية العبادة والتقرب إلى الله تعالى إلا إلى هذه الأماكن الثلاثة؛ تعظيما لشأنها وتشريفا».
7ـ الإمام ابن بطة العكبري: فقد نص صراحة على بدعية السفر لزيارة القبور؛ حيث قال في «الإبانة الصغرى» (366): «ومن البدع البناء على القبور وتحصينها، وشد الرحال إلى زيارتها». وانظر: «الصارم المنكي» لابن عبد الهادي (251).
8ـ الفقيه أبو الوفاء ابن عقيل: فقد نص ابن عقيل على النهي عن إنشاء السفر لزيارة القبور، فقال - جوابا عن السفر لزيارة القبور والمشاهد-: «فإن سافر لزيارة القبور والمشاهد، فقال ابن عقيل: لا يباح له الترخص؛ لأنه منهي عن السفر إليها، قال النبي ﷺ: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» متفق عليه» انظر: «المغني» لابن قدامة (2/100).
9ـ الفقيه العلامة عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف المتوفى سنة (1300)، كما في كتابه «إدام القوت» (584): «نص إمام الحرمين ـ ومثله القاضي حسين ـ على تحريم السفر لزيارة القبور، واختاره القاضي عياض بن موسى بن عياش في «إكماله»، وهو من أفضل متأخري المالكية، وقام وقعد في ذلك الشيخ الإمام ابن تيمية، وخطأه قوم وصوبه آخرون، ومهما يكن من الأمر؛ فليسعه ما وسع الجويني والقاضيين حسينا وعياضا ، ولكنهم أفردوه باللوم، والقول واحد!
وقال مالك بن أنس: من نذر المشي إلى مسجد من المساجد ليصلي فيه كرهت ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم :
«لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد»، وقال ابن سريج - من كبار أصحاب الشافعي -: إن الزيارة قربة تلزم بالنذر، والخطب يسير لم يوسعه إلا الحسد والتعصب، وإلا فالتثريب في موضع الاختلاف ممنوع» انتهى، وغيرهم كثير، مثل الصنعاني، والقنوجي.
القسم الثاني: من عاصر ابن تيمية، ووافقه على منع «شد الرحال إلى القبور»، وأصحاب هذا القسم كثيرون؛ لكنني سأقتصر على الذين ذكرهم الحافظ ابن عبد الهادي المقدسي في كتابه «العقود الدرية»؛ حيث نقل مجموعة وافرة من أجوبة أهل العلم الذين وافقوا ابن تيمية رحمه الله فيما ذهب إليه من منع السفر إلى القبور، فمن ذلك:
1ـ جواب الشيخ أبي المحاسن يوسف بن إسماعيل الشافعي البغدادي، المعروف بابن الكتبي، المتوفى سنة (755)، قال في جوابه عما جرى لابن تيمية في السجن: «فالمرجو من ألطاف الحضرة المقدسة - زادها الله تعالى علوا وشرفا -: أن يكون للعلماء الذين هم ورثة الأنبياء، وصفوة الأصفياء، وعماد الدين، ومدار أهل اليقين: حظ من العناية السلطانية وافر، ونصيب من الرحمة والشفقة ظاهر، فإنها منقبة لا يعادلها فضيلة، وحسنة لا يحيطها سيئة؛ لأنها حقيقة التعظيم لأمر الله تعالى، وخلاصة الشفقة على خلق الله تعالى.
ولا ريب أن المملوك وقف على ما سئل عنه الشيخ الإمام العالم العلامة، وحيد دهره، وفريد عصره: تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية، وما أجاب به، فوجدته خلاصة ما قاله العلماء في هذا الباب حسب ما اقتضاه الحال: من نقله الصحيح وما أدى إليه البحث من الإلزام والالتزام لا يدخله تحامل، ولا يعتريه تجاهل، وليس فيه - والعياذ بالله - ما يقتضي الإزراء والتنقيص بمنزلة الرسول ﷺ، وكيف يجوز للعلماء أن تحملهم العصبية: أن يتفوهوا بالإزراء والتنقيص في حق الرسول ﷺ؟
وهل يجوز أن يتصور متصور: أن زيارة قبر النبي ﷺ تزيد في قَدْرِه، وهل تركها مما ينقص من تعظيمه؟ حاشا للرسول من ذلك!
نعم لو ذكر ذلك ذاكر ابتداء، وكان هناك قرائن تدل على الإزراء والتنقيص أمكن حمله على ذلك. مع أنه كان يكون كناية لا صريحا، فكيف وقد قاله في معرض السؤال وطريق البحث والجدال!
مع أن المفهوم من كلام العلماء وأنظار العقلاء: أن الزيارة ليست عبادة وطاعة بمجردها؛ حتى لو حلف: أنه يأتي بعبادة أو طاعة لم يبر بها؛ لكن القاضي ابن كج [أبو القاسم يوسف بن أحمد الشافعي] - من متأخري أصحابنا - ذكر أن نذر هذه الزيارة عنده قربة تلزم ناذرها، وهو منفرد به لا يساعده في ذلك نقل صريح ولا قياس صحيح.
والذي يقتضيه مطلق الخبر النبوي في قوله ﷺ:
«لا تشد الرحال...» [متفق عليه]، - إلى آخره: أنه لا يجوز شد الرحال إلى غير ما ذكر. فمن اعتقد جواز الشد إلى غير ما ذكر أو وجوبه أو ندبيته: كان مخالفا لصريح النهي! ومخالفة النهي معصية - إما كفر أو غيره - على قدر المنهي عنه ووجوبه وتحريمه وصفة النهي. والزيارة أخص من وجه، فالزيارة بغير شد: غير منهي عنها، ومع الشد: منهي عنها.
وبالجملة؛ فما ذكره الشيخ تقي الدين [ابن تيمية] على الوجه المذكور الموقوف عليه: لم يستحق عليه عقابا ولا يوجب عتابا، والمراحم السلطانية أحرى بالتوسعة عليه، والنظر بعين الرأفة والرحمة إليه، وللآراء الملكية علو المزيد. حرره ابن الكتبي الشافعي؛ حامدا لله على نعمه». انتهى.

2ـ جواب الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن عساكر البغدادي المالكي، المتوفى سنة (796)، قال في جوابه عما جرى لابن تيمية: «ما أجاب به الشيخ الأجل الأوحد [ابن تيمية]، بقية السلف، وقدوة الخلف، رئيس المحققين، وخلاصة المدققين؛ تقي الملة والحق والدين: من الخلاف في هذه المسألة: صحيح منقول في غير ما كتاب من كتب أهل العلم، لا اعتراض عليه في ذلك، إذ ليس في ذلك ثلب لرسول الله ﷺ، ولا غض من قَدْرِه ﷺ.
وقد نص الشيخ أبو محمد الجويني في كتبه على تحريم السفر لزيارة القبور، وهو اختيار القاضي الإمام عياض بن موسى بن عياض في «إكماله» [4/449]، وهو أفضل المتأخرين من أصحابنا.
ومن «المدونة» [2/18]: «ومن قال: علي المشي إلى المدينة، أو بيت المقدس: فلا يأتيهما أصلا إلا أن يريد الصلاة في مسجديهما فليأتهما».
فلم يجعل نذر زيارة قبره ﷺ طاعة يجب الوفاء بها؛ إذ من أصلنا: أن من نذر طاعة لزمه الوفاء بها كان من جنسها ما هو واجب بالشرع - كما هو مذهب أبي حنيفة - أو لم يكن.

قال القاضي أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق عقيب هذه المسألة: «ولولا الصلاة فيهما لما لزمه إتيانهما، ولو كان نذر زيارة طاعة لما لزمه ذلك». وقد ذكر ذلك القيرواني في «تقريبه»، والشيخ ابن بشير في «تنبيهه».
وفي «المبسوط»: «قال مالك: ومن نذر المشي إلى مسجد من المساجد ليصلي فيه، قال: فإني أكره ذلك له؛ لقوله ﷺ:
«لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجد بيت المقدس، ومسجدي هذا» [مالك وأحمد].
وروى محمد بن المواز في «الموازية» عنه: «إلا أن يكون قريبا: فيلزمه الوفاء؛ لأنه ليس بشد رحل».

وقد قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر في كتابه «التمهيد» [1/168]: «يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والصالحين مساجد». وحيث تقرر هذا: فلا يجوز أن ينسب من أجاب في هذه المسألة: بأنه سفر منهي عنه إلى الكفر، فمن كفره بذلك من غير موجب، فإن كان مستبيحا ذلك: فهو كافر؛ وإلا فهو فاسق.
قال الإمام أبو عبد الله محمد بن علي المازري في كتاب «المعلم»: «من كفر أحدا من أهل القبلة فإن كان مستبيحا ذلك: فقد كفر، وإلا فهو فاسق، يجب على الحاكم إذا رفع أمره إليه أن يؤدبه ويعزره بما يكون رادعا لأمثاله، فإن ترك ذلك مع القدرة عليه: فهو آثم»، والله تعالى أعلم. كتبه: محمد بن عبد الرحمن البغدادي، الخادم للطائفة المالكية بالمدرسة الشريفة المستنصرية، رحمة الله على منشئها».
3- جواب الشيخ صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق الخطيب البغدادي، المتوفى سنة (739)، قال في جوابه: «ما ذكره مولانا الإمام العالم العامل [ابن تيمية]، جامع الفضائل والفوائد، بحر العلوم، ومنشأ الفضل، جمال الدين، الكاتب خطه أمام خطي هذا، جمل الله به الإسلام، وأسبل عليه سوابغ الإنعام: أتى فيه بالحق الجلي الواضح، وأعرض فيه عن إغضاء المشايخ؛ إذ السؤال والجواب اللذان تقدماه لا يخفى على ذي فطنة وعقل، أنه أتى في الجواب المطابق للسؤال بحكاية أقوال العلماء الذين تقدموه، ولم يبق عليه في ذلك إلا أن يعترضه معترض في نقله فيبرزه له، من كتب العلماء الذين حكى أقوالهم.
والمعترض له بالتشنيع: إما جاهل لا يعلم ما يقول، أو متجاهل يحمله حسده وحمية الجاهلية على رد ما هو عند العلماء مقبول!
أعاذنا الله تعالى من غوائل الحسد وعصمنا من مخائل النكد ... والحمد لله رب العالمين.
كتبه العبد الفقير إلى عفو ربه ورضوانه: عبد المؤمن بن عبد الحق الخطيب، غفر الله له ولجميع وللمسلمين. آمين! والحمد لله وصلواته على محمد نبيه وآله وسلامه».

4- جواب الشيخ أبي عمرو بن أبي الوليد المالكي، المتوفى سنة (745)، وقد أجاد رحمه الله في توضيح معنى قوله ﷺ: «لا تشد الرحال»، ثم أعقبه بقوله: «الحمد لله وهو حسبي. السفر إلى غير المساجد الثلاثة: ليس بمشروع.
وأما من سافر إلى مسجد النبي ﷺ ليصلي فيه ويسلم على النبي ﷺ وعلى صاحبيه رضي الله عنهما: فمشروع، كما ذكر باتفاق العلماء. وأما لو قصد إعمال المطي لزيارته ﷺ، ولم يقصد الصلاة، فهذا السفر إذا ذكر رجل فيه خلافا للعلماء، وأن منهم من قال: إنه منهي عنه، ومنهم من قال: إنه مباح، وأنه على القولين ليس بطاعة ولا قربة، فمن جعله طاعة وقربة على مقتضى هذين القولين: كان حراما بالإجماع. وذكر حجة كل قول منهما، أو رجح أحد القولين: لم يلزمه ما يلزم من تنقص، إذ لا تنقص في ذلك ولا إزراء بالنبي ﷺ.

وقد قال مالك رحمه الله ورضي عنه لسائل سأله: أنه نذر أن يأتي قبر النبي ﷺ؟ فقال: «إن كان أراد مسجد النبي ﷺ: فليأته وليصل فيه، وإن كان أراد القبر: فلا يفعل؛ للحديث الذي جاء «لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد» [مالك وأحمد]، والله أعلم. كتبه: أبو عمرو بن أبي الوليد المالكي».
5ـ جواب الشيخ جمال الدين يوسف بن عبد ابن البتي الحنبلي، المتوفى سنة (726)، قال فيما جرى لابن تيمية: «يقول أفقر عباد الله وأحوجهم إلى عفوه: ما حكاه الشيخ الإمام البارع الهمام [ابن تيمية]، افتخار الأنام جمال الإسلام، ركن الشريعة ناصر السنة، قامع البدعة، جامع أشتات الفضائل، قدوة العلماء الأماثل، في هذا الجواب من أقوال العلماء والأئمة النبلاء رحمة الله عليهم أجمعين: بين لا يدفع، ومكشوف لا يتقنع، بل أوضح من النيرين، وأظهر من فرق الصبح لذي عين.
والعمدة في هذه المسألة: الحديث المتفق على صحته، ومنشأ الخلاف بين العلماء من احتمالي صيغته، وذلك: أن صيغة قوله ﷺ: «لا تشد الرحال» [متفق عليه]، ذات وجهين: نفي ونهي، لاحتمالها لهما.
فإن لحظ معنى: النفي، فمعناه: نفي فضيلة واستحباب شد الرحل وإعمال المطي إلى غير المساجد الثلاثة؛ إذ لو فرض وقوعهما لامتنع رفعهما، فتعين توجه النفي إلى فضيلتهما واستحبابهما دون ذاتهما، وهذا عام في كل ما يعتقد، أن إعمال المطي وشد الرحال إليه قربة وفضيلة: من المساجد وزيارة قبور الصالحين، وما جرى هذا المجرى، بل أعم من ذلك.
وإثبات ذلك النفي لإعمال المطي إلى المساجد الثلاثة وما خرج من ذلك العموم بدليل ضرورة إثبات ذلك المنفي المقدر في صدر الجملة لما بعد «إلا»، وإلا لما افترق الحكم بين ما قبلها وما بعدها، وهو مفترق حينئذ: لا يلزم من نفي الفضيلة والاستحباب نفي الإباحة، فهذا وجه متمسك من قال بإباحة هذا السفر بالنظر إلى أن هذه الصيغة نفي، وبنى على ذلك جواز القصر.
وإن كان النهي ملحوظا، فالمعنى حينئذ: نهيه عن إعمال المطي وشد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة؛ إذ المقرر عند عامة الأصوليين: أن النهي عن الشيء قاض بتحريمه أو كراهته على حسب مقتضى الأدلة. فهذا وجه متمسك من قال: بعدم جواز القصر في هذا السفر لكونه منهيا عنه.

وممن قال بحرمته: الشيخ الإمام أبو محمد الجويني من الشافعية، والشيخ الإمام أبو الوفاء ابن عقيل من الحنابلة، وهو الذي أشار القاضي عياض من المالكية إلى اختياره.
وما جاء من الأحاديث في استحباب زيارة القبور: فمحمول على ما لم يكن فيه شد رحل، وإعمال مطي جمعا بينهما.
ويحتمل أن يقال: لا يصلح أن يكون غير حديث
«لا تشد الرحال»، معارضا له، لعدم مساواته إياه في الدرجة؛ لكونه من أعلى أقسام الصحيح، والله أعلم.
وقد بلغ أنه زري، وضيق على المجيب [ابن تيمية]، وهذا أمر يحار فيه اللبيب، ويتعجب منه الأريب؛ ويقع به في شك مريب!
فإن جوابه في هذه المسألة: قاض بذكر خلاف العلماء، وليس حاكما بالغض من الصالحين والأنبياء، فإن الأخذ بمقتضى كلامه صلوات الله وسلامه عليه في الحديث المتفق على صحة رفعه إليه: هو الغاية القصوى في تتبع أوامره ونواهيه، والعدول عن ذلك محذور، وذلك مما لا مرية فيه.
وإذا كان كذلك: فأي حرج على من سئل عن مسألة فذكر فيها خلاف الفقهاء، ومال فيها إلى بعض أقوال العلماء؟! فإن الأمر لم يزل كذلك على مر العصور، وتعاقب الدهور. وهل ذلك محمول من القادح إلا على امتطاء نضو الهوى، المفضي بصاحبه إلى التوى، فإن من يقتبس من فوائده، ويلتقط من فرائده؛ لحقيق بالتعظيم، وخليق بالتكريم: ممن له الفهم السليم، والذهن المستقيم، وهل حكم المظاهر عليه في الظاهر، إلا كما قيل في المثل السائر: «الشعير يؤكل ويذم».
وقول الشاعر [سليط بن سعد]:
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر ... وحسن فعل كما يجزى سنمار
[وقال مالك بن أسماء]:
وحديث ألذه هو مما ... ينعت الناعتون يوزن وزنا
منطق رائع وتلحن أحيا ... نا، وخير الحديث ما كان لحنا
وقال الله تعالى:
﴿ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون﴾ [المائدة:8]، وقال تعالى: ﴿وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب﴾ [المائدة:2]، وقال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما﴾ [الأحزاب:70-71]، وقال تعالى: ﴿ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز﴾ [الحج:40]. ولولا خشية الملالة لما نكبت عن الإطالة! نسأل الله الكريم: أن يسلك بنا وبكم سبيل الهداية، وأن يجنبنا وإياكم مسلك الغواية، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. وحسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير. والحمد لله رب العالمين، وصلوات الله وسلامه على سيد المرسلين، محمد النبي وآله الطاهرين، وأصحابه الكرام المنتخبين.
هذا جواب الشيخ الإمام العلامة: جمال الدين يوسف بن عبد المحمود بن عبد السلام بن البتي الحنبلي رحمه الله تعالى».

6ـ قال ابن عبد الهادي المقدسي رَحِمَهُ اللهُ: ووقفت على كتاب ورد مع أجوبة أهل بغداد، وصورته:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ناصر الملة الإسلامية، ومعز الشريعة المحمدية، بدوام أيام الدولة المباركة السلطانية، المالكية الناصرية؛ ألبسها الله تعالى لباس العز المقرون بالدوام، وحلاها بحلية النصر المستمر بمرور الليالي والأيام. والصلاة والسلام على النبي المبعوث إلى جميع الأنام، وعلى آله البررة الكرام.
اللهم إن بابك لم يزل مفتوحا للسائلين، ورفدك ما برح مبذولا للوافدين، من عودته مسألتك وحدك لم يسأل أحدا سواك، ومن منحته منائح رفدك لم يفد على غيرك، ولم يحتم إلا بحماك، أنت الرب العظيم الكريم الأكرم، قصد باب غيرك على عبادك محرم، أنت الذي لا إله غيرك، ولا معبود سواك، عز جارك، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، وعظم بلاؤك، ولا إله غيرك.
ولم تزل سنتك في خلقك جارية، بامتحان أوليائك وأحبابك، تفضلا منك عليهم وإحسانا من لدنك إليهم، ليزدادوا لك في جميع الحالات ذكرا ولأنعمك في جميع التقلبات شكرا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون:
﴿وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون﴾ [العنكبوت:43].
اللهم وأنت العالم الذي لا يعلم، وأنت الكريم الذي لا يبخل، قد علمت يا عالم السر والعلانية أن قلوبنا لم تزل ترفع إخلاص الدعاء صادقة، وألسنتنا في حالتي السر والعلانية ناطقة: أن تسعفنا بإمداد هذه الدولة المباركة الميمونة السلطانية الناصرية، بمزيد العلاء والرفعة والتمكين، وأن تحقق آمالنا فيها بإعلاء الكلمة، ففي ذلك رفع قواعد دعائم الدين، وقمع مكايد الملحدين؛ لأنها الدولة التي برئت من غشيان الجنف والحيف، وسلمت من طغيان القلم والسيف.
والذي تنطوي عليه ضمائر المسلمين، وتشتمل عليه سرائر المؤمنين: أن السلطان الملك الناصر للدين، ممن قال فيه رب العالمين، وإله السموات والأرضين: الذي بتمكينه في أرضه حصل التمكين لملوك الأرض، وعظماء السلاطين في كتابه العزيز، الذي يتلى فمن شاء فليتدبر:
﴿الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر﴾ [الحج:41]، وهو ممن مكنه الله تعالى في الأرض تمكينا يقينا لا ظنا، وهو ممن يعنى بقوله تعالى: ﴿وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا﴾ [النور:55].
والذي عهده المسلمون، وتعوده المؤمنون، من المراحم الكريمة، والعواطف الرحيمة: إكرام أهل الدين، وإعظام علماء المسلمين.
والذي حمل على رفع هذه الأدعية الصريحة إلى الحضرة الشريفة - وإن كانت لم تزل مرفوعة إلى الله سبحانه بالنية الصحيحة -: قوله ﷺ:
«الدين النصيحة»، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» [مسلم]، وقوله ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات» [متفق عليه]، وهذان الحديثان مشهوران بالصحة، مستفاضان في الأمة.
ثم إن هذا الشيخ المعظم الجليل [ابن تيمية]، والإمام المكرم النبيل: أوحد الدهر، وفريد العصر؛ طراز المملكة الملكية، وعلم الدولة السلطانية، لو أقسم مقسم بالله العظيم القدير: أن هذا الإمام الكبير ليس له في عصره مماثل ولا نظير: لكانت يمينه برة غنية عن التكفير، وقد خلت من وجود مثله السبع الأقاليم، إلا هذا الإقليم؛ يوافق على ذلك كل منصف جبل على الطبع السليم، ولست بالثناء عليه أطريه، بل لو أطنب مطنب في مدحه والثناء عليه؛ لما أتى على بعض الفضائل التي هي فيه: أحمد ابن تيمية، درة يتيمة، يتنافس فيها، تشترى ولا تباع، ليس في خزائن الملوك درة تماثلها، وتؤاخيها، انقطعت عن وجود مثله الأطماع.
ولقد أصم الأسماع، وأوهى قوى المتبوعين والأتباع: سماع رفع أبي العباس - أحمد ابن تيمية - إلى القلاع، وليس يقع من مثله أمر ينقم منه عليه إلا أنه يكون أمرا قد لبس عليه، ونسب إلى ما ينسب مثله إليه.
والتطويل على الحضرة العالية، لا يليق إن يكن في الدنيا قطب: فهو القطب على التحقيق، قد نصب الله السلطان أعلى الله شأنه في هذا الزمان منصب يوسف الصديق صلى الله على نبينا وعليه لما صرف الله وجوه أهل البلاد إليه حين أمحلت البلاد واحتاج أهلها إلى القوت المدخر لديه.
والحاجة بالناس الآن إلى قوت الأرواح الروحانية: أعظم من حاجتهم في ذلك الزمان إلى طعم الجثث الجثمانية. وأقوات الأرواح المشار إليها لا خفاء: أنها العلوم الشريفة والمعاني اللطيفة. وقد كانت في بلاد المملكة السلطانية - حرسها الله تعالى - تكال إلينا جزافا بغير أثمان منحة عظيمة، من الله للسلطان ونعمة جسيمة إذ خص بلاد مملكته وإقليم دولته بما لا يوجد في غيرها من الأقاليم والبلدان، وقد كان وفد الوافدون من سائر الأمصار إلى تلك الديار؛ فوجدوا صاحب صواع الملك قد رفع إلى القلاع، ومثل هذه الميرة لا توجد في غير تلك البلاد لتشترى أو تباع، فصادف ذلك جدب الأرض ونواحيها جدبا أعطب أهاليها حتى صاروا من شدة حاجتهم إلى الأقوات كالأموات.
والذي عرض للملك بالتضييق على صاحب صواعه مع شدة الحاجة إلى غذاء الأرواح؛ لعله لم يتحقق عنده أن هذا الإمام من أكابر الأولياء وأعيان أهل الصلاح، وهذه نزغة من نزغات الشيطان، قال الله سبحانه:
﴿وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا﴾ [الإسراء:53].
وأما إزراء بعض العلماء عليه في فتواه وجوابه عن مسألة شد الرحال إلى القبور، فقد حمل جواب علماء هذه البلاد إلى نظرائهم من العلماء، وقرنائهم من الفضلاء، وكلهم أفتى: أن الصواب في الذي به أجاب.
والظاهر بين الأنام: أن إكرام هذا الإمام، ومعاملته بالتبجيل والاحترام، فيه قوام الملك، ونظام الدولة، وإعزاز الملة؛ واستجلاب الدعاء، وكبت الأعداء، وإذلال أهل البدع والأهواء، وإحياء الأمة، وكشف الغمة، ووفور الأجر، وعلو الذكر، ورفع البأس، ونفع الناس، ولسان حال المسلمين تالي قول الكبير المتعال:
﴿فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين﴾ [يوسف:88].
والبضاعة المزجاة: هي هذه الأوراق المرقومة بالأقلام، والميرة المطلوبة: هي الإفراج عن شيخ الإسلام! والذي حمل على هذا الإقدام: قوله عليه السلام:
«الدين النصيحة» [مسلم]، والسلام. وصلى الله على سيدنا محمد، وآله الطيبين الكرام، وسلم تسليما. هذا آخر هذا الكتاب.
7ـ قال أيضا ابن عبد الهادي المقدسي: ووقفت على «كتاب آخر» من بغداد أيضا، صورته:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد النبي، وآله وصحبه أجمعين.
اللهم فكما أيدت ملوك الإسلام وولاة الأمور بالقوة والأيد، وشيدت لهم ذكرا، وجعلتهم للمقهور اللائذ بجنابهم ذخرا، وللمكسور العائذ بأكناف بابهم جبرا: فاشدد اللهم منهم بحسن معونتك لهم أزرا، وأعل لهم مجدا، وارفع قَدَرًا، وزدهم عزا، وزودهم على أعدائهم نصرا، وامنحهم توفيقا مسددا، وتمكينا مستمرا.
وبعد، فإنه لما قرع أسماع أهل البلاد المشرقية، والنواحي العراقية، التضييق على شيخ الإسلام: تقي الدين أبي العباس أحمد ابن تيمية سلمه الله، عظم ذلك على المسلمين، وشق على ذوي الدين، وارتفعت رءوس الملحدين، وطابت نفوس أهل الأهواء والمبتدعين.
ولما رأى علماء أهل هذه الناحية عظم هذه النازلة من شماتة أصحاب أهل البدع وأهل الأهواء بأكابر الأفاضل وأئمة العلماء: أنهوا حال هذا الأمر الفظيع، والقول الشنيع، إلى الحضرة الشريفة السلطانية، زادها الله شرفا، وكتبوا أجوبتهم في تصويب ما أجاب به الشيخ، سلمه الله في فتاويه، وذكروا من علمه وفضائله بعض ما هو فيه، وحملوا ذلك إلى بين يدي مولانا ملك الأمراء، أعز الله أنصاره، وضاعف اقتداره؛ غيرة منهم على هذا الدين، ونصيحة للإسلام وأمراء المسلمين.
والآراء المولوية العالية أولى بالتقديم؛ لأنها ممنوحة بالهداية إلى الصراط المستقيم.
وأفضل الصلاة وأشرف التسليم على النبي الأمي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين وسلم تسليما».
ثم قال ابن عبد الهادي: «إن الشيخ رحمه الله بقي مقيما بالقلعة سنتين وثلاثة أشهر وأياما، ثم توفي إلى رحمة الله ورضوانه، وما برح في هذه المدة مكبا على العبادة والتلاوة، وتصنيف الكتب، والرد على المخالفين...إلخ». انظر: «العقود الدرية» لابن عبد الهادي (412-435)، و«مجموع الفتاوى» لابن قاسم (27/194-213)، و«مجموع رسائل مرعي الكرمي» (2/442-447).

القسم الثالث: من جاء بعد عصر ابن تيمية رحمه الله، ووافقه على منع «شد الرحال إلى القبور»، وأصحاب هذا القسم كثيرون جدا، لا يسعهم هذا المقال، فهم كل من انتسب إلى منهج أهل السنة والجماعة ممن جاء بعد ابن تيمية، فهم أكثر من أن يحصروا وأشهر من أن يذكروا، فلله الحمد والمنة.
المقدمة العاشرة: لا شك أن باب المناظرة والمجادلة نوع من فنون الرد والمجادلة بالحسنى، وباب من إلزامات المخالف بطريق اللازم وغيره مما هو من مباحث علم الجدل، وليس هو مسلكا من مسالك أهل العلم في بيان المسائل العملية التي بابها التعليم والتقرير، فالتقرير لون والرد لون آخر؛ لذا فإني أحببت أن أذكر بعض الفروق الجدلية بين السني والبدعي في مسألة «شد الرحال إلى القبور»، كما يلي:
قلت: إن سفر السني إلى القبور لهو أقل شرا وضررا من البدعي؛ باعتبارين:
الاعتبار الأول: أن مقصد السني في سفره للقبور: هو الدعاء لأهل القبور، وأخذ العبرة والتذكير من حالهم، وغير ذلك مما هو مشروع، وهذا بخلاف البدعي فإنه يقصد بسفره: الأمور البدعية والشركية.
فأما الأمور البدعية: فمثل التمسح بالقبور والتبرك بها، أو الدعاء والصلاة لله تعالى عندها؛ بحجة أن الدعاء والصلاة عندها أعظم أجرا وأرجى استجابة.
وأما الأمور الشركية: فمثل دعاء أصحاب القبور لطلب الشفاء وجلب الرزق، والسجود والنذر لهم، وغير ذلك من الشركيات التي تخرج صاحبها من الإسلام؛ عياذا بالله!
الاعتبار الثاني: أن سفر السني إلى القبور فيه مخالفة لأمر النبي ﷺ في تحريم «شد الرحال إلى القبور»، فهو مخالف في الوسيلة لا في الغاية، وهذا بخلاف البدعي فإن وسيلته وغايته محرمة تحريما مغلظا؛ لكونه يريد بسفره هذا: الأمور البدعية أو الشركية، وقد قيل: للوسائل أحكام المقاصد.
وعليه؛ فإن سفر السني إلى القبور دائر بين الحل والتحريم بعيدا عن الزيارة الشركية، وهو السفر الذي جرى فيه الخلاف القديم الذي جرى بين أهل العلم المعتبرين، أما سفر البدعي فهو محرم بإجماع أهل العلم؛ لأنه دائر بين البدعة والشرك، عياذا بالله!
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين.



وكتبه
ذياب بن سعد آل حمدان الغامدي
في ظهر ليلة الثلاثاء الموافق (17/جمادى الثاني/1444)
 
اسمك :  
نص التعليق : 
      
 
 
 

 
 
 اشتراك
 انسحاب
اشتراك
انسحاب
 المتواجدون حاليا: ( 25 )
 الزيارات الفريدة: ( 2649151)